والهند، وكما ازدهرت الثالثة بعدها على شواطئ المحيط الأطلنطي، وكما يحتمل أن تنشأ الرابعة على شواطئ المحيط الهادي؟ هل كان السبب في نشأتها هو اعتدال مناخ البلاد المطلة على هذا البحر؟ لقد كانت الأمطار السنوية تروي الأرض وتخصبها في الزمن القديم كما ترويها وتخصبها في هذه الأيام، وكان البرد المعتدل يبعث في أهل البلاد النشاط؛ وكان في وسع الأهلين أن يعيشوا في الهواء الطلق طول العام تقريباً، تدفئهم الشمس ولكنها لا توهن أجسامهم. ومع هذا فإن سطح الأرض حول خذا البحر وفي جزائره لا يبلغ من الخصب في مكان ما مبلغ أرض الأدوية الغرينية في أحواض الكنج أو السند أو دجلة أو الفرات أو النيل. وقد يبدأ جفاف الصيف مبكراً عن عادته، أو قد يطول أكثر مما يستحب، وتجد في كل مكان فيه الأرض الحجرية لا تبعد إلا قليلاً عن القشرة الغرينية المتربة الرقيقة. وتقع إلى شمال هذه الأراضي التاريخية بلاد معتدلة المناخ وإلى جنوبها أرض مدارية؛ وكلها أخصب منها تربة. ولما أضنى الجهد الفلاحين سكان شواطئ البحر الأبيض وجزائره، ووجدوا أالتربة لا تجود عليهم بما يعوض عنهم جهودهم، أخذوا يتخلون عن فلحها شيئاً فشيئاً؛ ويستبدلون بذلك زراعة الزيتون والكروم. وكانت تلك البلاد تتعرض من حين إلى حين إلى أخطار الزلازل، فتنشق الأرض تحت أقدام السكان على طول بعض العيوب الأرضية التي تعد بالمئتين، فترهبهم وتدفعهم إلى نوبات من التقى والإيمان. ولم يكن المناخ هو الذي جاء بالحضارة إلى بلاد اليونان، وأكبر الظن أن المناخ لم يكن سبب قيام الحضارة في قطر من الأقطار.
أما السبب الذي جذب الناس إلى بحر إيجة فهو جزائره. فلقد كانت هذه الجزائر جميلة؛ ولا ريب في أن الملاح المتعب كان ينشرح صدره حين يرى اختلاف ألوان التلال المظللة التي تقوم كالهياكل فوق مياه البحر وتنعكس عليها. وقلما يجد الإنسان في هذه الأيام مناظر أجمل من منظر هذه التلال