الشمال. وكان الضباب نادراً في البحر الأبيض، كما أن أشعة الشمس التي لا تكاد تحتجب عنه ينشأ منها بالليل وبالنهار نسيم البر والبحر، حتى ليستطيع الإنسان من بدء الربيع إلى آخر الخريف أن يستعين في أي ثغر من ثغوره- إلا القليل النادر منها - بنسيم الصباح في خروجه منه وبنسيم المساء في عودته إليه.
في هذه البحار الصالحة للتجوال نمى الفينيقيون الكسابون واليونان القوازب فن الملاحة وعلمها، فبثوا فيها سفناً معظمها أكبر وأسرع من جميع السفن التي كانت تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط قبلهم ولكنها كانت أيسر منها حركة، وأضحت الطرق البحرية بين أوربا وأفريقيا من جهة آسيا من جهة أخرى مارة بقبرص وصيدا وصور أو ببحر إيجه والبحر السود وأضحت على الرغم من قراصنة البحر وما يتهددها من أخطار، أقل نفقة من الطرق البرية الطويلة الشاقة المعرضة للأخطار والتي كان ينقل عليها في الأيام الخالية الكثير من تجارة مصر والشرق الأدنى. وبذلك اتجهت التجارة وجهات جديدة، وضاعفت عدد السكان الجدد وأوجدت ثروات جديدة، فاضمحل شأن مصر، وأعقب ذلك اضمحلال شأن أرض الجزيرة وفارس، وأقامت فينيقية إمبراطورية من المدائن على ساحل أفريقيا وفي صقلية وإسبانيا، وازدهرت بلاد اليونان ازدهار الوردة المرتوية.