وهو يجبي الضرائب عيناً، ويختزن في جرار ضخمة موارده من حب وزيت وخمر، ومن هذه الموارد يؤدي رواتب رجاله عيناً. وهو يقضي وهو جالس على عرشه في القصر أو من مجلسه في بيته الملكي الصغير فيما يرفع إليه من القضايا التي مرت بمحاكمه. وقد بلغ من شهرته في أحكامه أنه يصبح في الدار الآخرة بعد موته قاضي الموتى الذين لا مفر من عرض قضاياهم عليه، كما يؤكد لنا هومر. ونحن نسميه في كتابنا مينوس ولكننا لا نعرف حقيقة اسمه. ولعل هذا لقب لا اسم شبيه بلفظ فرعون أو قيصر يطلق على عدد كبير من الملوك.
وتدل هذه الحضارة في ذروة مجدها على أنها حضارة مدن لا حضارة ريف. وتحدثنا الإلياذة عن "مدائن" كريت "التسعين"، ويعجب اليونان الذين يقتحمونها من كثرة سكانها. بل إن الدارس ليقف اليوم مرتاعاً أمام شوارعها المحطمة المرصوفة ذات المجاري، وأمام أزقتها المتقاطعة، وحوانيتها التي يخطئها الحصر؛ وميادينها المتجمعة حول مركز من مراكز التجارة أو الحكم، حيث نرى الرجال محتشدين يتحدثون وهم ساكتون وادعون. وليست كنوسس وحدها هي المدينة العظيمة ذات القصور الواسعة التي تغري الخيال على أن يبالغ في عظمة المدينة التي كانت بلا ريب أكبر مصدر لثروة هذه القصور وأول ما يستفيد من ثروتها. ويقابل كنوسس على شاطيء الجزيرة الجنوبي مدينة فستوس، ومن مينائها "تحمل قوة الريح والأمواج إلى أرض مصر السفن ذات المقدمات القاتمة، كما يقول هومر". وفي هذه المدينة تتجمع تجارة كريت المينوية الذاهبة إلى الجنوب، مضافاً إليها السلع التي يأتي بها تجار الشمال الذين ينقلون بضائعهم إليها بطريق البر ليتجنبوا أخطار الطريق البحري الطويل. وتصبح فستوس بعدئذ لكريت كما كانت بيريوس لليونان، تحب التجارة أكثر من حبها الفن؛ ومع هذا فإن قصر أميرها صرح فخم، يرقي إليه بطائفة من الدرج يبلغ اتساعها