الثانية يتتبع بمنتهى الدقة والإخلاص موكباً لعله موكب الفلاحين يمشون يغنون في عيد، ثم تضعف تقاليد الفخار الكريتي ويضمحل فنه؛ وينسى الصناع تحفظهم وذوقهم، فتغطى الزخارف المزهريات من أولها إلى آخرها في غير نظام، ويعجز الصناع عن التفكير البطيء والتنفيذ في صبر وأناة، ويحل الإهمال والتراخي اللذان ينتحلان اسم الحرية محل الدقة والصقل اللذين عهدناهما في عصر كمارس. وليس من حقنا أن نلوم الكريتيين على هذا الاضمحلال فهو الموت الذي لا مفر منه والذي لابد أن يلاقيه الفن إذا بلغ سن الشيخوخة وخارت قواه، فيستغرق في سبات مدى ألف عام، ثم يولد من جديد، ويبلغ منتهى الكمال في المزهريات الأتكية.
وفن النحت من الفنون الصغرى في كريت، وقلما يرقى إلى أكثر من صنع التماثيل الصغيرة إلا في النقوش المنخفضة وفي قصة ديدلوس. وكثير من هذه التماثيل الصغرى فجة لا تخرج عن نمط واحد جرى به العرف وثبت عليه؛ ويبدو أنها كانت تصنع من غير مثال تحتذيه. ومن هذه تمثال من العاج يمثل لاعباً رياضياً ساعة أن يقفز في الهواء؛ ومنها رأس جميل ضاع جسمه في أثناء انتقاله إلينا خلال القرون الطوال. وخير هذه التماثيل يفوق في دقة التشريح وفي وضوح الحركات كل ما عرفناه من تماثيل اليونان قبل أيام ميرون وأغربها كلها إلهة الأفاعي المحفوظة في متحف بُسطن - وهي تمثال قوي من العاج والذهب نصفها أنثى ونصفها أفعى؛ وفي هذا يعالج المثال آخر الأمر الجسم الآدمي بشي من سعة الإدراك والنجاح. ولكنه حين يريد أن يمثل الضخامة يعمد في الغالب إلى تمثيل الحيوانات ويقتصر على النقوش البارزة الملونة، كما نرى ذلك في رأس الثور المحفوظ في متحف هركيولانيوم؛ وفي هذا الأثر المدهش نرى العينين الوحشيتين، والمنخارين الناخرين، والفم اللاهث، واللسان