حجرية صماء لا تستطيع الاحتفاظ بمياه الأمطار الشتوية. ولعل أهلها هي أيضاً قد أسرفوا في تحديد النسل كما تسرف سائر الحضارات في عصور اضمحلالها، وتركوا الإكثار للعجزة والضعفاء. ولعل ازدياد الثروة والترف وما أعقبه من انهماك في الملذات الجسمية قد أضعف ما في السكان من حيوية، وأضعف إرادتهم في أن يعيشوا ويدافعوا عن أنفسهم، ذلك أن الأمم تولد رواقية وتموت أبيقورية. ولعل انهيار مصر بعد موت إخناتون قد أحدث اضطراباً في التجارة التي كانت قائمة بين مصر وكريت، وقلل من ثراء الملوك المينويين؛ وغير خاف أن كريت ليس فيها موارد داخلية واسعة، وأن رخاءها إنما يعتمد على التجارة وعلى الأسواق الخارجية لتصريف مصنوعاتها، ولذلك أصبحت كإنجلترا في الوقت الحاضر تعتمد اعتماداً شديد الخطورة على سيطرتها البحرية. وربما كانت الحروب الخارجية قد قضت على الكثيرين من شبانها الأقوياء، وتركت الجزيرة منقسمة مفككة لا تستطيع صد الغزاة الأجانب. وربما كانت الزلازل قد دكت قصورها، أو أن أهلها قد انتقموا لأنفسهم في ثورة عنيفة مما قاسوه من ظلم واستبداد قروناً طوالا.
ذلك ما لا نعلمه علم اليقين، وأما الذي لاشك فيه أن قصر فستوس قد دمر مرة أخرى في عام ١٤٥٠، وأن قصر حاجيا تريادا قد التهمته النيران، وأن بيوت الأثرياء في توليسوس قد اختفت من الوجود. ويلوح أن كنوسس كانت في الخمسين سنة التي تلت ذلك العهد تستمتع بأعظم ما وصلت إليه من ثراء، ومن سلطان لا ينازعها فيه منازع في جميع أنحاء بحر إيجة. وفي عام ١٤٥١ التهمت النيران قصر كنوسس نفسه، فقد عثر إيفنر في كب مكان فيه على شواهد دالة على اندلاع اللهب الذي لم يقو الأهلون على حصره- من كتل خشبية وأعمدة محترقة، وأسوار مسودة، وألواح طينية قد جمدتها حرارة النار حتى استعصت على أنياب الزمان ولقد كان الدمار شاملاً، وكان اختفاء المعادن حتى من الحجرات التي غطتها الأنقاض وحمتها من النيران كاملاً،