في جميع بلاد البحر المتوسط (١). لقد كانوا قبل أيام هومر شعباً بدوياً متنقلاً، وكانت شبه جزيرة البلقان كلها تضطرب بحركاتهم، ولكن أهم العوامل التي أثارت الموجات اليونانية المتتابعة التي طغت على جزائر بحر إيجة وعلى السواحل الغربية للقارة الآسيوية كانت غزوات الدوريين. فقد خرج الناس على أثرها من جميع أنحاء هيلاس يبحثون عن الموطن وينشدون الحرية بعيدين عن قبضة الفاتحين المستعبدين؛ وكان من العوامل الأخرى التي بعثت على هذه الهجرة ما في الدول القديمة من انقسامات سياسية ومنازعات بين الأسر؛ فكان المغلوبون يختارون النفي من البلاد أحياناً، وكان الغالبون يشجعونهم على الخروج منها أعظم تشجيع؛ يضاف إلى هذا أن بعض من بقي على قيد الحياة من اليونان الذين اشتركوا في حرب طروادة فضلوا البقاء في آسية؛ واستقر غيرهم في جزائر بحر إيجة حباً في المغامرات أو عجزاً عن العودة إلى وطنهم بعد أن تحطمت بهم السفن التي كانت تقلهم، ووجد غيرهم حين عادوا إلى أوطانهم بعد أسفارهم الطويلة التي تعرضوا فيها لأشد الأخطار، أن عروشهم قد ثُلّت وأن زوجاتهم قد احتضنهن غيرهم، فعادوا إلى سفنهم ليُنشئوا لهم أوطاناً جديدة ويجمعوا ثروات جديدة في خارج بلادهم (٢). وعاد الاستعمار على بلاد اليونان الأصلية، كما عاد صنوه على أوربا الحديثة، بمزايا عظيمة من عدة وجوه. فلقد كان منفذاً للزائدين على طاقة الأرض من السكان وللمغامرين منهم، وكان بمثابة صمام الأمان من التذمر الزراعي، وبفضله نشأت أسواق أجنبية لغلات البلاد الأصلية، ومستودعات حصينة في مراكز منيعة للواردات من الطعام والمعادن. وأوجد الاستعمار في آخر الأمر إمبراطورية تجارية كان ما فيها من تبادل السلع،
(١) قارن هذا بقول بيتر Pater: " لعل أروع حوادث التاريخ اليوناني كله وأشدها إثارة للنفس هو استعمارهم في بداية أمره! ".