في تاريخنا الاستعماري. لقد كان في مغادرة الأرض التي خلعت عليها شعائر القداسة قبور الآباء والأجداد، والتي يحرسها الأرباب القدامى، والخروج إلى أصقاع غريبة لا تحميها في أكبر الظن آلهة بلاد اليونان، لقد كان في هذا وذاك مغامرة خطيرة الشأن، ومن أجل هذا أخذ المستعمرون معهم حفنات التراب من بلادهم الأصيلة لينثروها فوق أرض الأقاليم الأجنبية، وحملوا في جد ووقار قبساً من النار من المذابح العامة في مدافنهم الأولى ليشعلوا به النار في مواقد المدن التي أنشأوها في مستعمراتهم الجديدة. وكانوا يختارون مواضع هذه المدن على شاطئ البحر أو قريبة منه، حيث يمكن أن تكون السفن - وهي الموطن الثاني لنصف اليونان - ملجأ يعصمهم من هجمات الأعداء براً؛ وكان خيراً من هذا الوضع عندهم أن تقام فوق سهل ساحلي تحميها الجبال التي تصد المغيرين من ورائها، أو على تل يكون حصيناً منيعاً في داخل المدينة نفسها، أو أن تكون ذات ميناء في البحر يحميه لسان بارز منه؛ وخير من هذا وذاك أن يكون هذا الميناء الأمين على طريق تجاري، أو قريباً من مصب نهر تصل إليه السفن حاملة الغلات من داخل البلاد لتُصدر أو يُستبدل بها غيرها من الغلات، فتنتعش ويعمها الرخاء عاجلاً كان ذلك أو آجلاً. وكانوا لا يكادون يجدون موقعاً صالحاً إلا احتلوه، واستولوا عليه بالحيلة إن أفلحت، فإن لم تفلح سلكوا إليه سبيل القوة. ولم يكن اليونان في هذه الظروف يرعون مبادئ أخلاقية أرقى مما نرعاه نحن الآن (١)، فكان الفاتحون في بعض الأحيان يستعبدون السكان الأولين بنفس الدعاوى المضحكة الباطلة التي ادعاها الحجاج المهاجرون طلباً للحرية. وكان أكثر من هذا حدوثاً أن يتودد المهاجرون الجدد إلى السكان الأولين بما يحملونه إليهم من الهدايا، ويخلبوا لبهم بثقافتهم الراقية، ومغازلة نسائهم، وعبادة آلهتهم. ولم يكن اليونان المستعمرون يعنون بنقاء الدم (٣). وكان في وسعهم على الدوام أن يجدوا في مجتمع آلهتهم الكثيرة