للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السادس قبل الميلاد، وأثمر رخاؤها المطرد أدباً وفلسفة وفناً. وكان الصوف يُحمل إليها من أرض الكلأ الغنية في الداخل وينسج ملابس في مصانع النسيج القائمة في المدينة. وتعلم التجار الأيونيون عن الفينيقيين إقامة المستعمرات لتكون مراكز تجارية، فأنشأوا العدد الكبير منها في مصر وإيطاليا، على شواطئ بحر البروبنتس واليوكسين، ثم تفوقوا شيئاً فشيئاً على معلميهم في هذا المجال، فكان لميليتس وحدها ثمانون مستعمرة من هذه المستعمرات التجارية، ستون منها في الشمال. وكانت ميليتس تستورد من أبيدوس وسيزيكوس Cyzicus وسينوب وألبيا Olbai وترابيزوس Trapezus وديوسكورياس Dioscurias الكتان والخشب والفاكهة والمعدن، وتصدر إليها بدلاً منها مصنوعاتها اليدوية. وأصبح ثراء المدينة وترفها ُتضرب بهما الأمثال وتعير بهما المدينة في بلاد اليونان بأجمعها. وفاضت خزائن تجارها بالأموال فأخذوا يمولون المشروعات في طول البلاد وعرضها وفي المدينة نفسها، فكانوا هم آل ميديتشي في عصر النهضة الأيونية.

وفي هذه البيئة المنعشة الباعثة على النشاط الذهني أثمرت بلاد اليونان الثمرتين الأوليين من الثمار التي امتازت بها على غيرها، وأهدتهما إلى العالم كله- نقصد العلوم الطبيعية والفلسفة؛ ذلك أنه حيث تتلاقى الطرق تتلاقى كذلك الآراء والعادات والعقائد المتباينة؛ وينشأ من اختلافها احتكاك، فتنازع، فمفاضلة، فتفكير؛ فتمحو الخرافات بعضها بعضاً، ويبدأ التفكير المنطقي السليم. وقد تلاقى في ميليتس كما تلاقى في أثينة رجال جاءوا من مائة دولة متفرقة، ذوو نشاط عقلي بعثه فيهم التنافس التجاري، وقد تحرروا من أسر التقاليد لطول غيابهم عن أوطانهم، وهياكلهم، ومذابح آلهتهم. وكان أهل ميليتس أنفسهم يسافرون إلى المدن البعيدة حيث تفتحت عيونهم على حضارة ليديا، وبابل، وفينيقية، ومصر. وبهذه الطريقة وغيرها من الطرق دخل علم الهندسة المصرية