للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وعلم الفلك البابلي العقل اليوناني، ونمت التجارة الداخلية، والعلوم الرياضية، والتجارة الخارجية، وعلوم الجغرافية، والملاحة، والفلك، كلها في وقت واحد. وكان الثراء في هذه الأثناء قد أوجد للناس الفراغ؛ ونشأت في البلدة أرستقراطية ثقافية امتازت بالتسامح الفكري لأن من يستطيعون القراءة كانوا أقلية صغيرة في المدينة. ولم يكن يضيق على عقول الناس وتفكيرهم قيود يفرضها رجال دين أقوياء، ولا نصوص قديمة منزلة موحى بها، وحتى القصائد الهومرية التي أمست فيما بعد كتاب اليونان المقدس إلى حد ما لم تكن قد اتخذت بعد شكلها النهائي المحدد المعروف، ولمّا اتخذته كان ما فيها من أساطير دينية مطبوعاً بطابع التشكك الأيوني والمرح المُجُوني. ومن ثم أصبح التفكير في هذه المدينة لأول مرة تفكيراً دنيوياً غير ديني يسعى وراء الأجوبة العقلية المنسقة غير المتنافرة لما يحير العقول من مسائل العالم والناس (١).

على أن الغرس الجديد، وإن كان قد حل محل الغرس القديم، كانت له أصوله وكان له آباءه وأجداده، فقد امتزجت بالفلسفة الواقعية الطيبة التي كانت من خصائص التجار الفينيقيين واليونان حكمة الكهنة المصريين والمجوس الفرس الأقدمين، بل لعلها قد امتزجت بها أيضاً حكمة المتنبئين الهنود وعلم الكهنة الكلدان وبداية الخليقة المجسدة التي صاغها هزيود شعراً. وقد مهد الدين نفسه السبيل إلى هذا المزج حين تحدث عن مويرا Moira أو القدر، وقال إنه هو المتحكم في الآلهة والبشر. وكان هذا بداية فكرة القانون الذي يعلو على الإرادة الشخصية مهما عظمت، وهي الفكرة التي تدل على الفرق الجوهري بين العلم والأساطير؛ وبين الاستبداد والديمقراطية. ولقد تحرر الإنسان من يوم أن اعترف أنه خاضع لحكم القانون، وأكبر الأسباب التي جعلت اليونان ذوي خطر في


(١) وقد ظهرت حركات شبيهة بهذه الحركة في الهند والصين في هذا القرن السادس قبل الميلاد.