التاريخ ورفعتهم فيه إلى أعلى مكانة، هي أنهم، على قدر ما وصل إليه علمنا، كانوا أول من اعترف بخضوع الإنسان لحكم القانون وبحقه في البحث الفلسفي وفي اختيار الحكم الذي يرتضيه.
وإذا كانت الحياة تتطور متأثرة بعاملين هما الوراثة والتجديد، أي بتثبيت العادات وإقرارها والتجديد التجريبي، فقد كان من المنتظر أن تكون الأصول الدينية للفلسفة هي التي تغذيها، وأن يبقى فيها إلى آخر أيامها عنصر ديني قوي. وقد كان في الفلسفة اليونانية تياران يجريان جنباً إلى جنب: أحدهما تيار طبيعي النزعة ظاهر، والثاني تيار صوفي غامض. وقد نشأ الأول في عهد فيثاغورس، وشمل برمنديدس وهرقليطس وأفلاطون وكلنثيس Cleanthes، وانتهى ببلنتينوس Blontinus والقديس بولس؛ وأما الثاني فقد كان أول رجاله العالميين طاليس، وشمل أنكسمندر وكزنوفانيس Xenophanes وبروتجراس وهبقراطس ودمقريطس، وانتهى بأبيقور ولكرتيوس Lucretius. وكان يحدث من حين إلى حين أن يقوم رجل عظيم- كسقراط وأرسطاطاليس، وماركس أورليوس- فيمزج التيارين في مجرى واحد يحاول به أن يوضح نظم الحياة المعقدة التي لا تنطبق على قانون. على أن النغمة الغالبة في هؤلاء الرجال أنفسهم كانت هي حب أتباع العقل، وهي النغمة التي يمتاز بها التفكير اليوناني.
ولد طاليس حوالي ٦٤٠ ق. م وأكبر الظن أنه ولد في ميليتس، وكان الدائر على ألسنة الناس أنه من أبوين فينيقيين (٢١)، وتلقى معظم تعليمه في مصر والشرق الأدنى. وفيه يتمثل انتقال الثقافة من الشرق إلى الغرب. ويبدو أنه لم يشتغل بالأعمال التجارية والمالية إلا بالقدر الذي أمكنه أن يحصل به على طيبات الحياة العادية. وليس من يجهل قصة مضارباته في معاصر الزيت (١) ثم صرف باقي
(١) وهاهي ذي القصة على لسان أرسطو نفسه؛ يقولون إن طاليس أدرك بمهارته في علم النجوم (الفلك) أن محصول الزيتون سيكون موفوراً في ذلك العام، فاستأجر في الشتاء قبل أن يحين موعد جنيه جميع معاصر الزيت في ميليتس وطشيوز بإيجار منخفض، لأنه لم يجد وقتئذ أحداً ينافسه. ولما حل موعد عصر الزيت وتقدم الكثيرون من الناس يطلبون هذه المعاصر أجرها لهم بالشروط التي يرتضيها، وجمع بهذه الطريقة أموالاً طائلة، وأثبت لهم أن من اليسير على الفلاسفة أن يغتنوا إذا شاءوا.