تعظّم الهند الدين، وكما عظّمت إيطاليا في عهد النهضة العبقرية الفنية، وكما تعظم أمريكا الناشئة بطبيعة الحال المشروعات الاقتصادية. فأبطال اليونان لم يكونوا قديسين أو فنانين أو من أصحاب الملايين، بل كانوا حكماء، ولم يكن أجل حكمائهم هم أصحاب النظريات العلمية، بل كانوا رجالاً جعلوا لحكمتهم عملاً جدياً نشيطاً في العالم. وأصبحت أقوال هؤلاء الرجال حكماً وأمثالاً يتناقلها اليونان، وكانت في بعض الأحيان تنقش على جدران معبد أبلو في دلفي. فقد كان الناس مثلاً مولعين بترديد قول بياس، إن أبأس الناس من لم يعرف كيف يصبر على البؤس، وإن على الناس أن ينظموا حياتهم كما لو كانوا قد قدر عليهم أن يعيشوا طويلاً أو قصيراً، وإن "الحكمة يجب أن يُعتز بها وأن تكون وسيلة للانتقال من الشباب إلى الشيخوخة، لأنها أبقى من كل ما عداها مما يملكه الإنسان"(٤٠).
وإلى غرب بريني تقوم جزيرة ساموس ثانية جزائر أيونيا في الاتساع. وكانت حضارتها تقوم على ساحلها الجنوبي الشرقي؛ وكان الإنسان إذا ما دخل موفأها الأمين، بالسفن الحمراء الذائعة الصيت التي يتألف منها أسطول الجزيرة، شاهد المدينة أمامه كأنها مشيدة من القرميد على سفح التل. وكان أول ما شاهده الأرصفة والحوانيت، ثم يرى بعدئذ البيوت؛ ثم حصنها القائم على ربوة، ثم هيكل هيرا العظيم، ومنهن وراء هذه كلها سلاسل متتابعة من الجبال والقلل تعلو إلى خمسة آلاف قدم. لقد كان ذلك بلا ريب منظراً يثير الحماسة الوطنية في قلب كل ساموسي.
ووصلت ساموس إلى أوج عظمتها في الربع الثالث من القرن السادس تحت حكم بوليكراتيز Polycrates. وقد استطاع هذا الطاغية بفضل المال الذي تدره عليه رسوم الميناء أن يقضي فترة من البطالة كانت تنذر الجزيرة بأوخم العواقب، فوضع خطة لإقامة منشآت عامة أثارت إعجاب هيرودوت. وكان أعظم مشروعاته نفق في جبل ينقل الماء إلى المدينة مسافة ٤٥٠٠ قدم. وفي