للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ولكن هؤلاء السكان لم يكونوا رجال دين فحسب بل كانوا فوق ذلك بشراً، ولهذا كانوا يربطون في الضحية طيوراً قوية شفقة بها ورحمة، حتى تخفف أجنحتها من شدة الصدمة عند سقوط الضحية على الأرض (٤). والراجح أن قفزة سافو نفسها ذات اتصال بذكريات هذه العادة الدينية. واحتل كرسيرا (كورفو Corfu) مستعمرون كورنثة حوالي ٧٣٤ ق. م. ولم يلبثوا أن أصبح لهم من القوة ما أمكنهم بها أن يهزموا أسطول كورنثة ويقرروا استقلالهم. وسافر بعض المغامرين اليونان من كرسيرا في البحر الأدرياوي متجهين نحو الشمال حتى وصلوا إلى البندقية؛ واستقر بعضهم في مستعمرات صغيرة على ساحل دلماشيا، وفي وادي نهر البو Po (٥) وعبَرَ بعضهم آخر الأمر مياه البحر الهائجة وقطعوا فيها خمسين ميلاً حتى استقروا في كعب إيطاليا. ووجدوا في ذلك المكان شاطئاً جميلاً ينحني فتتكون من انحنائه مرافئ طبيعية آمنة، ورائه أرض خصبة أهملها السكان الأصليون إهمالاً يكاد أن يكون تاماً (٦). واستولى الغزاة اليونان على هذا الإقليم الساحلي بمقتضى قانون التوسع الاستعماري الذي لا يعرف للرحمة معنى، وهو القانون القائل إن الموارد الطبيعية التي لا يستغلها أهل الإقليم تجذب، بنوع من الجاذبية الكيميائية، وغيرهم من الناس ليستغلوها ويدفعوا بها إلى تجارة العالم ومنفعته. واخترق الوافدون الجدد -وأكثرهم من الدوريين - كعب شبه الجزيرة مبتدئين من برنتيزيوم (برنديزي)، وأنشئوا مدينة كبيرة في تاراس taras- تارنتم الرومانية (تارنتو الحديثة) (١)، وفيها غرسوا أشجار الزيتون وربوا الخيول، وصنعوا الفخار، وبنوا السفن، وصادوا


(١) ذكرنا في جدول الحوادث التاريخية المسلسلة التواريخ المتواترة لإنشاء هذه المدن في غرب بلاد اليونان. وقد أخذ ثوكيديدس هذه التواريخ عن المؤرخ القديم أنثيكوس السرقوسي Antjochus of Syracuse. ومظنة الخطأ فيها كبيرة، ويعتقد مهفي Mahaffy أن المدن التي أنشئت في صقلية قد أنشئت في عهود متأخرة عن العهد الذي أنشئت فيه المدن الإيطالية. غير أن تواريخ ثوكيديدس لا يزال يؤيدها كثيرون من المؤرخين.