الوصول إليه من وسائل التوفيق بين العنصرين المتناقضين اللذين يتألف منهما المجتمع الإنساني، واللذين يتناوبان الغلبة عليه، ونقصد بهما عنصر النظام، وعنصر الحرية، فالمجتمع الصغير لا يأمن على نفسه من الاعتداء، والمجتمع الكبير يصبح مجتمعاً استبدادياً. وكانت أكبر أمنية للفلاسفة أن تتكون بلاد اليونان من دول - مدن مستقلة ذات سيادة تتعاون كلها داخل نظام فيثاغوري مؤتلف منسجم. وكانت فكرة أرسطو عن الدولة أنها جماعة من الأحرار يخضعون لحكومة واحدة، ويستطيعون الالتقاء في جمعية واحدة، وكان يرى أن الدولة إذا زاد عدد مواطنيها على عشرة آلاف تعجز على إدارة شئونها. ومن أجل هذا كان لفظ واحد - بوليس Polis- يطلق على المدينة والدولة في بلاد اليونان.
وما من أحد يجهل أن هذا التفتت السياسي قد جر على بلاد اليونان كثيراً من المآسي بسبب ما قام بين أهلها وهم إخوة من نزاع. فقد خضعت أيونيا لسيطرة الفرس لأنها عجزت عن أن تتحد للدفاع عن نفسها؛ وضاعت في آخر الأمر تلك الحرية التي كان اليونان يعتزون بها ويقدسونها، لأن بلاد اليونان لم تستطع الثبات متحدة في وجه أعدائها رغم ما أقامته من أحلاف وعصب. ولكننا نعود فنقول أنه لولا دول - المدن لما كانت بلاد اليونان، ولولا شعور اليونان بالفردية المدنية، واعتزازهم الشديد باستقلالهم، ولولا ما كان بين أنظمتهم وعاداتهم وفنونهم، وآلهتهم من تباين، لما كان ما بينهم من تسابق وتنافس حافزاً لهم على أن يحيوا حياة إنسانية كاملة فيها من الحماسة والإبداع ما لا نظير له في أي مجتمع آخر. وهل في وقتنا الحاضر نفسه رغم ما فيه من حيوية وتنوع، وما يمتاز به من آلات ضخمة وقوى جبارة، مجتمع في حجم المجتمعات اليونانية أو في عدد سكانها يستطيع أن يهب المدينة من النعم قدر ما وهبتها حرية اليونان المضطربة التي كانت هي والفوضى سواء؟