في مبناها وفي لغتها، وأن الصور الإيولية والأيونية تختلط فيها اختلاطاً لا يقدر عليه إلا رجل من أهل أزمير يتكلم عدة لغات، وأن أوزان شعرها مأخوذة من هذه اللهجة تارة ومن تلك اللهجة تارة أخرى، وأن حبكتها قد أفسدها كثرة ما فيها من تناقض، وتغيير في الخطة، وتوكيد أهمية حادثة ما في بعض المواضع ثم الاستخفاف بشأنها في البعض الآخر، وتعارض في أخلاق أشخاصها، وأن أبطالها يقتلون هم أنفسهم مرتين أو ثلاث مرات قبل نهاية القصة، وأن موضوعها الأصلي- وهو غضب أكليز ونتائجه- يقطعه ويطغى عليه عشرات القصص والحوادث المأخوذة على ما يظهر من قصائد أخرى أدمجت في الملحمة في أجزاء مختلفة منها؛ لسنا ننكر شيئاً من هذا ولكن القصة في مناحيها الكبرى قصيدة واحدة، ولغتها جزلة قوية حية، والقصيدة في جملتها "أعظم ما افترت عنه شفه بني الإنسان (١٥) " ولم يكن مستطاعاً أن تبدأ هذه الملحمة إلا في شباب اليونان الناضر النشيط، أو أن تختتم إلا في إبان نضوجهم الفني. وأشخاص الملحمة يكادون أن يكونوا كلهم من المحاربين أو من نساء المحاربين، وحتى الفلاسفة منهم أمثال نسطور يقاتلون بشجاعة يحسدون عليها. وكل شخصية من هذه الشخصيات كانت موضع تفكير وعطف من مصورها. ولعل أجمل ما في الأدب اليوناني كله هو نزاهته التي تجعلنا نعطف على هكتور تارة وعلى أكليز تارة أخرى. فأكليز في خيمته شخص قد تجرد من صفات البطولة، غير محبب إلى النفوس، يشكو إلى أمه أن حظه لا يتفق مع مقامه نصف الإلهي، وأن أجممنون قد سرق منه بريسيز البائسة وهي أعز ما يمتلك، ثم يترك اليونان يحصدهم الموت زمراً وهو غاضب في سفينته أو خيمته يأكل وينام، ويرسل بتركلوس ليلقى منيته دون أن يجد منه عوناً، ثم يملأ الجو عويلاً ونحيباً لا يليق بالرجال. وحين يذهب إلى المعركة آخر الأمر، لا يذهب إليها مدفوعاً بوطنيته بل لأن حزنه على فقد صديقه قد سلبه عقله، وينسيه غضبه جميع الصفات