من الأحوال أما ثانيهما فلا يحققه من اليونان إلا الفلاحون، والفلاسفة، والقديسون. أما الأثيني العادي فهو رجل شهواني ولكنه رجل ذو ضمير حي، لا يرى خطيئة في ملاذ الجسم ويجد فيها الجواب العاجل للتشاؤم الذي يخيم عليه في فترات تفكيره. وهو مغرم بالخمر ولا يستحي أن يسكر منها بين الفينة والفينة، ويحب النساء حباً جثمانياً لا يكاد يشعر بأن فيه خطيئة ما، ولا يجد حرجاً في أن يعفو عن نفسه بعد أن يرتكب خطيئة الاختلاط الجنسي الشاذ، ولا يرى أن تنكب طريق الفضيلة كارثة لا يمكن النجاة منها. ولكنه رغم هذا يخفف الخمر بإضافة ثلاثة أقداح من الماء لكل قدحين منها، ويرى أن تكرار السكر مخالف لمقتضيات الذوق السليم؛ وهو يعظم الاعتدال بل يعبده مخلصاً في عبادته إياه، ولكنه قلما يسير عليه في حياته العملية، ويصوغ مبدأ السيطرة على النفس صياغة لا تجاريها في الوضوح صياغة أي شعب آخر في التاريخ لهذا المبدأ السامي. إن الأثينيين أذكى من أن يكونوا صالحين ويسخرون من البلاهة أكثر مما يمقتون الرذيلة، وليسوا كلهم حكماء؛ وليس لنا أن نتصور أن نساءهم كلهن حِسان مثل نسكا Nausica، أو أن فيهن من أسباب الجلال ما في هلن؛ كما لا يحق لنا أن نتصور أن رجالهم يجمعون بين شجاعة أجاكس وحكمة نسطور. لقد حفظ لنا التاريخ أسماء عباقرة اليونان وغفل عن ذكر بلهائهم (عدا نيشياس Nicias) ؛ وقد يبدو عصرنا نفسه عظيماً حين ينسى معظمنا، ولا ينجو من هذا النسيان إلا الشوامخ منا. وإذا أخرجنا من حسابنا ما يبعثه قدم العهد في القلوب من عطف وحنان على الأقدمين، بقي أن نقول إن الأثيني العادي لا يقل دهاء عن الشرقي، ولا يقل شغفاً بالجدة عن الأمريكي، متشوف طلعة على الدوام، لا ينقطع عن الحركة والانتقال، ولا ينفك ينادي بالهدوء البرمنيدي (١)، ولكنه مضطرب مهتاج مثل هرقليطس. ولم يكن لشعب قبل الأثينيين ما كان لهم من قوة الخيال أو
(١) نسبة إلى الفيلسوف برمنيدس الإيلي (القرن السادس قبل الميلاد). (المترجم)