للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فصاحة اللسان؛ ولقد كان التفكير الواضح والتعبير الخالي من الغموض يبدوان للأثيني من الصفات القدسية، فلم يكن يطيق التشويش والارتباك العلمي، ويرى أن الحديث الدقيق القائم على المعرفة والذكاء أرقى متع الحضارة. ولقد كان سبب ما امتاز به التفكير وما امتازت به الحياة من غزارة وقوة، أن اليوناني كان يرى أن الإنسان هو المقياس الذي تقدَّر به الأشياء جميعها؛ فالأثيني المتعلم يعشق العقل، وقلما كان يشك في قدرته على إدراك العالم وتصويره؛ وكان حب المعرفة والرغبة في الفهم أنبل عواطفه وأعظم مشتهياته؛ وكان شغفه بهما شغفاً مسرفاً قوياً كشغفه بغيرهما. ولقد كشف فيما بعد أن للعقل الإنساني والجهود البشرية حدوداً يقفان عندها ولا يتخطيانها، وكان من الطبيعي أن يكون رد الفعل المترتب على هذا الكشف أن تنتابه حالة من التشاؤم عجيبة لا تتفق قط مع بهجته ومرحه. وحتى في العصر الذي بلغ فيه إنتاجه الفكري غايته، كانت آراء أعمق مفكريه - وهم كتاب المسرحيات لا الفلاسفة - تشوبها عقيدته في أن بهجة الحياة خداعة قصيرة الأجل، وأن الموت رابض له متربص به.

وكانت روح البحث هي التي أنشأت علوم اليونان، كما كان الحرص على الاستحواذ منشأ حياتهم الاقتصادية والعامل المسيطر عليها. وفي هذا المعنى الأخير يقول أفلاطون مبالغاً كعادة علماء الأخلاق: "إن حب الثراء يستحوذ كل الاستحواذ على قلوب الرجال، فلا يفكرون إلا في أملاكهم الخاصة، التي تتعلق بها نفس كل مواطن" (٥٣). فالأثينيون في حقيقة أمرهم حيوانات متنافسة، وبهذه المنافسة القاتلة التي لا هوادة فيها ولا رحمة، يحفز بعضهم همم بعض. وهم على جانب كبير من الذكاء، ولا يقلون دهاءً واحتيالاً عن الساميين، وهم صلاب الرأي صلابة العبرانيين كما وصفتهم التوراة، وهم مثلهم مشاكسون، معاندون، متكبرون، كثيرو اللجاج والمساومة