الإسبارطية وندرك الفرق بينها وبين الروح الأثينية فما علينا إلا أن نفكر في روح الألمان وروح الفرنسيين.
وقد اجتمعت صفات الأثينيين كلها لتقيم دولة - المدينة؛ ففيها ولدت قوتهم وشجاعتهم، وحدة ذكائهم وألمعيتهم، وشقشقة لسانهم، وشدة مراسهم، ومحبتهم للكسب، وشدة غرورهم، ووطنيتهم، وعبادتهم للجمال والحرية؛ وفي دولة المدينة اجتمعت هذه الصفات كلها وبلغت غايتها. وهم سريعو الانفعال ولكنهم لا يميلون كثيراً مع الهوى. ويجيزون التعصب الديني من آن إلى آن، غير أنهم لا يتخذونه وسيلة للحد من حرية الفكر، بل يتخذونه سلاحاً من أسلحة السياسة الحزبية، ورباطاً لتجاربهم الأخلافية. أما فيما عدا هاتين الحالتين، فهم يستمسكون بقدر من الحرية، يندهش منه زوارهم الشرقيون ويبدو في نظرهم الفوضى بعينها. ولكن حريتهم هذه، وكون كل منصب من مناصب الدولة ميسر لكل مواطن وكون كل مواطن محكوماً تارة وحاكماً تارة أخرى، لكن هذه الأمور هي التي جعلتهم يخصصون نصف حياتهم لخدمة دولتهم. ولم يكن بيتهم إلا المكان الذي ينامون فيه، أما حياتهم فكانوا يقضونها في السوق العامة، وفي الجمعية، والمجلس، والمحاكم، وساحات الأعياد الكبرى والمباريات، وفي مشاهدة المسرحيات التي يمجدون بها مدينتهم وآلهتها. وهم يعترفون بحق الدولة في أن تجندهم وتستولي على أموالهم متى احتاجت إليهم وإليها. وهم يعفون عن إرهاقها إياهم واستيلائها على أموالهم، لأن عملها هذا يتيح لهم فرصة النماء الإنساني أكبر مما عرفه الإنسان في أي عصر من العصور السابقة؛ وهم يحاربون دفاعاً عن مدينتهم لأنها مهد حرياتهم وحارستها. وفي ذلك يقول هيرودوث "وبهذا زاد الأثينيون قوتهم؛ ويتضح كل الوضوح، من هذا ومن شواهد أخرى كثيرة، أن الحرية من أعظم النعم. ألست ترى أن الأثينيين، وهم خاضعون لحكم الطغاة، لم يكونوا يفوقون جيرانهم في الشجاعة أدنى تفوق، ولكنهم لم يكادوا يتحررون من نير الطغاة حتى صاروا أشجع الشجعان بلا منازع"(٥٤).