أقوال بروتاغوراس أن الحقيقة المطلقة لا وجود لها، وأن كل ما يوجد هو الحقائق التي يعتنقها بعض الناس في ظروف خاصة، وقد تكون الأقوال المتناقضة حقائق متساوية القيمة في اعتقاد أشخاص مختلفين أو في أزمنة مختلفة (٩١). والحقيقة كلها والخير والجمال، أمور نسبية وشخصية، "والإنسان هو المقياس الذي تقاس به جميع الأشياء فهو الذي يقرر أن الأشياء الكائنة كائنة، وأن الأشياء غير الكائنة غير كائنة"(٩٢). ولقد يخيل إلى المؤرخ أن العالم كله قد بدأ يرتجف ويتزعزع كيانه حين أعلن بروتاغوراس هذا المبدأ البسيط من مبادئ الإنسانية والنسبية، وأن الحقائق المقررة والمبادئ المقدسة جميعها أخذت تتصدع وتنهار، وأن الفردية قد وجدت صوتاً ينادي بها وفلسفة تؤيدها، وأن الأسس فوق الطبيعية للنظام الاجتماعي قد تعرضت كلها لخطر الزوال.
ولولا أن بروتاغوراس قد طبق في وقت من الأوقات هذا التشكيك البعيد الأثر، والذي يتضمنه هذا القول الذائع الصيت، على شئون الدين لبقي قولاً نظرياً مأمون العاقبة. ذلك أن بروتاغوراس قرأه على جماعة من كبار المفكرين في بيت يوربديز الملحد الحر التفكير البغيض إلى الشعب. وقد أثارت أول جملة في هذه الرسالة ثائرة الناس في أثينة وكانت الجملة الأولى فيها هي:"أما من حيث الآلهة فلست أدري أهي موجودة أم غير موجودة كما لا أعلم لها شبهاً. وثمة أشياء كثيرة تقف في سبيل هذه المعرفة: فالموضوع غامض، وحياتنا الفانية قصيرة الأجل"(٩٣). وارتاعت الجمعية الأثينية من هذه الكلمة الافتتاحية التي تنذر بشر مستطير فقررت نفي بروتاغوراس، وأُمر الأثينيون على بكرة أبيهم أن يسلموا كل ما عساه أن يكون لديهم من كتاباته، وأحرقت كتبه في السوق العامة. وفر بروتاغوراس إلى صقلية ولكنه، على ما ترويه القصة، غرق في الطريق (٩٤).