وواصل غورغياس الليونتيني Gorgias of Leontini هذه الثورة التشكيكية، ولكنه أوتي من الحكمة ما جعله يقضي معظم حياته في خارج أثينة. وكانت سيرته أنموذجاً لسير الرجال الذين يجمعون بين الفلسفة والسياسة في بلاد اليونان. وقد ولد في عام ٤٨٣، ودرس الفلسفة والبلاغة مع أنبادوقليس، وبلغ من شهرته في الخطابة وفي تدريسها أن أرسلته ليونيني في عام ٤٢٧ سفيراً لها في أثينة. واستحوذ في الألعاب الأولمبية التي أقيمت في عام ٤٠٨ على قلوب حشد كبير من الناس بخطاب له طلب فيه إلى اليونان المتحاربين أن يعقدوا الصلح فيما بينهم لكي يواجهوا وهم متحدون واثقون من الفوز قوة بلاد الفرس الآخذة في الانتعاش، وأخذ يتنقل من مدينة إلى مدينة ويشرح أينما حل آراءه بأسلوب خطابي طلي، وألفاظ ممتعة وعبارات منسقة في معناها ومبناها، متزنة اتزاناً دقيقاً بين الشعر والنثر، لم يجد معها أية صعوبة في جذب الطلاب إليه يعرضون عليه مائة مينا نظير منهجه الدراسي. وقد حاول في كتابه في الطبيعة أن يثبت ثلاث قضايا مدهشة مروعة هي أنه:(١) لا وجود لشيء ما. (٢) ولو أن شيئاً وجد لكانت معرفته غير ممكنة. (٣) ولو أن شيئاً كانت معرفته ممكنة لما أمكن نقل هذه المعرفة من شخص إلى آخر (١). ولم يبق من كتابات غورغياس غير هذه القضايا. وبعد أن استمتع بكرم كثير من الدول وأجورها ألقى عصا التسيار في تساليا وهدته حكمته إلى استهلاك معظم ثروته الطائلة قبل وفاته (٩٦). ويؤكد لنا كل من أرَّخوا له أنه عاش حتى بلغ من العمر مائة سنة وخمس سنين على أقل تقدير، ويقول لنا كاتب قديم إن غورغياس، وإن بلغ من
(١) ومعنى هذه القضايا التي يقصد بها الحط من فلسفة التسامي التي يقول بها بارمنيدس: (١) أن لا وجود لشيء خارج الحواس. (٢) وأنه لو وجد شيء خارج الحواس لما أمكن معرفته لأن المعرفة جميعها تصل إلينا عن طريق الحواس. (٣) ولو أن شيئاً خارج دائرة الحواس أمكن معرفته فإن معرفته لا يستطاع نقلها من شخص إلى آخر لأن كل انتقال للمعرفة لا يكون إلا عن طريق الحواس.