الفلسفة السوفسطائية هي التي فصلت بين هذين المؤرخين وميزت كلاً منهما من الآخر. فقد كان هيرودوت أكثر بساطة من صاحبه، ولعله كان أكثر منه رأفة، وما من شك في أنه كان أبهج منه روحاً. وقد ولد في هليكرنسس Halicarnassus حوالي عام ٤٨٤، من أسرة بلغت من رفيع المنزلة درجة أمكنتها أن تشترك في الدسائس السياسية. ونفي من بلده وهو في الثانية والثلاثين من عمره بسبب مغامرات عمله السياسية، فبدأ من ذلك الوقت تلك الرحلات البعيدة التي كان لها أكبر الأثر في تواريخه. وقد مر بفينيقية في طريقه إلى مصر وتوغل فيها حتى وصل إلى جزيرة إلفنتين، ووصل في ترحاله غرباً إلى قورينة وشرقاً إلى السوس وشمالاً إلى المدن اليونانية القائمة على شاطئ البحر الأسود. وكان حيثما ذهب يلاحظ، ويبحث بعين العالم وتطلع الطفل؛ ولما ألقي عصا التسيار في أثينة حوالي عام ٤٤٧ كان في جعبته مقدار ضخم من المذكرات المختلفة عن جغرافية الدول المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط، وتاريخها وعادات أهلها. وقد استعان بهذه المذكرات وسرقات قليلة من هكتيوس Hecataeus وغيره من المؤرخين السابقين على تأليف أشهر الكتب التاريخية على الإطلاق. وقد وصف في كتابه هذا حياة الناس في مصر، والشرق الأدنى، وبلاد اليونان، وسجل فيه تاريخ هذه البلاد كلها، من بدايته الخرافية إلى نهاية الحرب الفارسية. وتقول إحدى القصص القديمة إنه قرأ أجزاء من كتابه هذا على الجمهور في أثينة، وإن الأثينيين أعجبوا أشد الإعجاب بما ورد فيه من وصف الحرب وما قاموا به فيها من أعمال مجيدة، فقرروا له اثنتي عشرة وزنة (تالنت) أي ما يعادل ستين ألف ريال أمريكي - وهو مبلغ يرى أي مؤرخ أنه يبلغ من الضخامة حداً يجعله غير معقول. ويعلن هيردوت في مقدمة الكتاب بأسلوب رائع الغرض من وضعه فيقول:
"هذا عرض لبحوث (Historia) هيرودوت الهليكرنسي يقصد به