للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العاديين من خطر في التاريخ، وإن كان يخفف من أعباء موضوعة بما يبثه فيه من صورة بركليز، وألقبيادس، ونيشياس وأمثالهم، يجنح لتدوين الحادثات أكثر مما يجنح لذكر الأشخاص، ويبحث في علل الحوادث وتطوراتها، ونتائجها. وكان هيرودوت يكتب عن حوادث جد بعيدة عنه نقلت إليه أخبارها معنعنة مرتين أو ثلاث مرات في معظم الحالات، أما توكيديدز فكثيراً ما يحدثنا عما شاهده بعينيه، أو عما سمعه ممن شاهدوا بعيونهم، أو اطلعوا على وثائقه الأصلية، وكثيراً ما يثبت الوثائق التي يتحدث عنها. وهو شديد الحرص على الدقة، وحتى وصفه الجغرافي نفسه قد ثبتت صحة تفاصيله. وقلما يصدر أحكاماً أخلاقية على الرجال أو الحادثات، ويطلق العنان لسخريته الأرستقراطية من الديمقراطية الأثينية فتتغلب عليه وهو يصور كليون؛ ولكنه في أكثر الأحيان يبعد شخصيته عن قصته، ويروي الحقائق بنزاهة لا يتحيز لأحد الطرفين، ويقص قصة حياته توكيديدز العسكرية القصيرة وكأنه لم يعرف ذلك الرجل قط، دع عنك أنه هو الرجل الذي يقص قصته. وهو مبتدع الطريقة العلمية في التاريخ، ويفخر بما بذله في تأليفه من الجد والعناية. ويقول وهو يشير من طرف خفي إلى هيرودوت:

"إني أعتقد أن النتائج التي وصلت إليها من الأدلة التي ذكرتها هنا يمكن أن يوثق بها ويعتمد عليها. وما من شك في أنها لن تؤثر فيها قصص شاعر يعرض ما في صناعته من مبالغات، ولا تآليف الإخباريين التي يضحى فيها بالحقائق في سبيل الطرافة والجاذبية لأن الموضوعات التي يعالجونها خارجة عن نطاق الأدلة والبراهين، ولأن قدم عهدها قد سلبها قيمتها التاريخية ورفعها إلى مقام الخرافات. أما نحن فلم نلجأ إلى هذه الطريقة أو تلك، ولا ريب عندنا في أننا قد اعتمدنا على أصح المعلومات وأكثرها وضوحاً، وأننا قد وصلنا إلى نتائج تبلغ من الدقة أقصى ما ينتظره الإنسان في أمثال هذه المسائل الموغلة في القدم … وإني لأخشى أن يفقد كتابي بعض ما يجب أن يحتويه من طرافة ومتعة بسبب خلوه