من القصص الخيالية المثيرة للعواطف، ولكن إذا رأى الباحثون الذين يرغبون في الوصول إلى حقائق الماضي الصحيحة ليستعينوا بها على تفسير حوادث المستقبل - وهي التي تشبه بلا ريب حوادث الماضي، إن لم تكن صورة مطابقة لها - إذا رأى هؤلاء الباحثون أن فيه فائدة لهم، فأني أرضى بهذا وأقنع به. وملاك القول أني لم أكتب كتابي هذا ليكون مقالة يكسب بها تصفيق الناس وثناؤهم لحظة قصيرة، بل كتبته ليكون ملكاً لجميع العصور (١٤٧).
لكنه مع هذا يضحي بالدقة في سبيل الطرافة في حالة واحدة معينة، فهو مولع بأنه ينطق شخصياته بالخطب الطنانة، ويعترف صراحة بأنه معظم هذه الخطب من نسج الخيال، ولكنها مع ذلك تساعده على توضيح الشخصيات والأفكار والحوادث وإنعاشها. وهو يدعي بأن كل خطبة من هذه الخطب تتضمن خلاصة خطبة حقيقية ألقيت فعلاً في الوقت الذي يتحدث عنه. فإذا كان هذا صحيحاً فإن جميع رجال الحكم وقواد الجيش من اليونان قد درسوا بلا ريب فنون البلاغة مع غورغياس، والفلسفة مع السوفسطائيين، وعلم الأخلاق مع ثرازمكس. يضاف على هذا أن الخطب جميعها واحدة في أسلوبها ومراوغتها ودهائها، ونظرتها الواقعية إلى الأمور. وهي تجعل الإسبارطي صاحب الرد الموجز المسكت مراوغاً كأي أثيني تربى بين السوفسطائيين، وتنطق الدبلوسيين بحجج أبعد ما تكون عن الدبلوماسية (١) وتضفي على عبارات قادة الجند أمانة صارمة لا قبل لهم بها. وليست "خطبة بركليز الجنازية" إلا مقالاً بديعاً في فضائل أثينة، كتبها بأسلوب رشيق رجل مطرود من بلده؛ مع أن بركليز قد اشتهر ببساطة خطبه وبعدها من فنون البلاغة، هذا إلى أن بلوتارخ يفسد على توكيديدز دعواه الخيالية الروائية بقوله إن بركليز لم يخلف وراءه شيئاً مكتوباً، وإن أقواله لا يكاد يبقى منها شيء على الإطلاق (١٤٨).
(١) خطب ألقبيادس في إسبارطة، المجلد الرابع (ص ٢٠، ٩٨).