للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قد ابتلعت ثقافتها أكثر مما ابتلعت ثقافة أثينة، فضاعت مخطوطاتها في فوضى الثورات والحروب، وليس في وسعنا إلا أن نحكم على الكل من هتامات الجزء.

لكن تراث هذه الحضارة رغم هذا كله تراث عظيم، عظيم في شكله بلا ريب إن لم يكن في مقداره (ومن ذا الذي استطاع أن يستوعبه كله؟). والشكل والنظام هما جوهر أسلوب العصر الذهبي في الأدب وفي الفن على السواء؛ فالكاتب اليوناني، كالفنان اليوناني الذي يعد أنموذجاً لذلك العصر، لا يقنع بمجرد التعبير عما يريد، بل يتوق إلى أن يكسب مادته شكلاً وجمالاً. وهو يعمد إلى مادته فيقصها من أطرافه ويشذبها، ويعيد تنظيمها لتكون واضحة جلية، ويحولها إلى صورة من البساطة المعقدة؛ وهو دائماً واضح يسلك أقصر الطرق إلى قصده، وقلّما يلجأ إلى الدوران أو الغموض، يتجنب المبالغة والتحيز، وإذا ما لجأ إلى الخيال في مشاعره حاول أن يكون منطقياً في تفكيره. وهذا الجهد الدائم الذي لا ينفك يبذله لإخضاع الخيال للعقل، وهو الصفة الغالبة المسيطرة على العقل اليوناني؛ لا بل على الشعر اليوناني نفسه. ومن أجل هذا كان الأدب اليوناني أدباً "حديثاً" بل قل أدباً معاصراً؛ فإنا ليصعب علينا أن نفهم دانتي أو ملتن؛ أما يوربديز، وتوكيديدز، فهما شديدا القرب من عقولنا وينتميان إلى عصرنا. وسبب ذلك أن العقل يبقى من غير تغيير وإن تغيرت الأساطير، وأن حياة العقل تؤاخي بين أنصارها ومحبيها في كل زمان ومكان.