هذا هو جوهر الفلسفة الكلبية: أن تقتصر حاجات الجسم على الضرورات المحضة حتى تكون الروح حرة قدر المستطاع. وقد استمسك أنتستانس بحرفية النظرية، وأصبح كأنه راهب فرنسيسي يوناني بلا دين. وكان شعار أرستبوس هو:"إني أملك ولكن أحداً لا يملكني"، أما شعار انتستانس فقد كان:"إني لا أملك حتى لا يمتلكني أحد". ولم يكن عنده مال (٣٥)، وكان يرتدي ثوباً خلقاً عيره به سقراط بقوله:"إني أستطيع أن أرى غرورك يا أنتستانس من خلال ثقوب ثوبك"(٣٦). وإذا ضربنا صفحاً عن هذا فقد كان عيبه الوحيد هو تأليف الكتب؛ وقد ترك منها ثمانية، أحدها تاريخ للفلسفة. ولما مات سقراط اضطلع أنتستانس بواجب تدريس الفلسفة لطالبيها واختار موضعاً لمحاضراته ساحة "كلب البحر للتدريب الرياضي"، وكان سبب اختيارها أنها مخصصة لأفراد الطبقات الدنيا، أو الغرباء، أو غير الشرعيين، وغلب اسم الكلبي على المدرسة بسبب مكان وجودها لا بسبب العقيدة التي تُدرس فيها (٣٧). وكان أنتستانس يرتدي ثياب العمال، ولا يتقاضى أجراً على قيامه بالتدريس، ويفضل أن يكون تلاميذه من الفقراء، ويطرد من مدرسته بلسانه أو عصاه كل من لا يعيش معيشة الفقراء ولا يتحمل شظف العيش.
وأبى في أول الأمر أن يقبل ديجين ضمن تلاميذه فلما أصر ديجين وصبر على الإهانة، قبلهُ، فأذاع التلميذ نظريات أستاذه في جميع أنحاء هلاس بأن اتبع تعاليمه في معيشته لا يحيد عنها قيد شعرة. لقد كان أنتستانس في أصله نصف رقيق، وكان ديجين رجلاً مصرفياً مفلساً من سينوب اضطرته شدة الحاجة إلى التسول، وسره أن يعلم أن هذا جزء من الفضيلة والحكمة، فلبس أثواب المتسولين، وحمل جرابهم، وتوكأ على عصاهم، وعاش وقتاً ما داخل قصعة في ساحة معبد سيبيل في أثينة (٣٨). وكان يحسد الحيوان على حياته البسيطة ويحاول أن يحذو حذوه، ينام على الأرض، ويطعم مما يستطيع الحصول عليه أينما وجده؛ ويؤكدون لنا أنه كان