تغلغل في كيانه، ولم يكن سيف مقدونية إلا الضربة الأخيرة التي أجهزت عليه وهو يلفظ آخر أنفاسه. لقد تبين أن دولة المدينة لا تستطيع حل مشاكل الحكم: فقد عجزت عن حفظ النظام في الداخل، وصد الأعداء في الخارج؛ ولم تهتد إلى وسيلة توفق بها بين الاستقلال وبين الاستقرار القومي وقوة السلطان رغم نداء غورغياس، وإسقراط وأفلاطون لهذه المدن بأن تستعين بشيء من التنظيم الُّدوري القوي لتكبح به جماح الحرية الأثينية. هذا إلى أن حب دولة المدينة للحرية لم يقف قط في سبيل نزعتها الإمبراطورية. يضاف إلى هذا أن حرب الطبقات قد اشتدت حتى أفلت زمامها من أيدي الزعماء، وجعلت الديمقراطية سباقاً إلى الانتهاب عن طريق التشريع. وانحطت الجمعية التي كانت هيئة شريفة في أحسن أيامها فأصبحت هيئة من الرعاع الصخابين تكره كل سلطة فوق سلطتها، وترفض كل قيد يحد من هذه السلطة، تقسو على الضعيف وتخضع ذليله للقوي، توافق على كل ما تنال من ورائه النفع لنفسها، وتفرض على الأملاك من الضرائب الفادحة ما من شأنه أن يقضي على الابتكار والنشاط والادخار. إن فليب والإسكندر وأنتباتر لم يكونوا هم الذين قضوا على الحرية اليونانية، بل إن هذه الحرية هي التي قضت على نفسها بنفسها؛ ولقد أبقى النظام الذي أقاموه حضارة لولاه لقضى عليها ما فيها من عناصر الفوضى الاستبدادية، ونشر هذه الحضارة في مصر والشرق.
ومع هذا كله فهل استطاعت الألجركية أو الملكية المطلقة أن تفعل خيراً مما فعلتهُ تلك الديمقراطية؟ إن حكومة "الثلاثين" قد ارتكبت في الشهور القلائل التي استولت فيها على أزمة الحكم من الفظائع ضد الأنفس والأموال أكثر مما ارتكبته الديمقراطية في مائة السنين السابقة لهذا الحكم (٤٥). وبينما كانت الديمقراطية تخلق الفوضى في أثينة كانت الملكية تخلق الفوضى في مقدونية؛ وهل ثمة فوضى أكثر من حروب تربى على عشر جر إليها النزاع