وقطعوا الأدغال، وجففوا المستنقعات، وتغلبوا على تماسيح النهر وأفراسه، ووضعوا أسس الحضارة على مهل.
وتوحي إلينا هذه البقايا وبقايا أخرى غيرها بشيء من العلم عن حياة المصريين قبل الأسر الأولى التي عاشت في الأزمنة التاريخية. لقد كانت ثقافة ذلك العهد ثقافة وسطاً بين الصيد والزراعة، بدأت منذ قليل باستبدال الأدوات المعدنية بالحجرية. وكان الناس في أيامها يصنعون القوارب، ويطحنون الحب، وينسجون الكتان والبسط، ويتحلون بالحلي، ويتعطرون بالعطور، لهم حلاَّقون وحيوانات مستأنسة، وكانوا يحبون التصوير وبخاصة تصوير ما يصيدون من الحيوان (١٨)، وكانوا يرسمون على خزفهم الساذج صور النساء الحزانى وصوراً أخرى تمثل الحيوانات والآدميين، وأشكالاً هندسية، وينحتون آلات غاية في الدقة والأناقة يشهد بها سكين جبل الأراك. وكانت لهم كتابة مصورة وأختام أسطوانية شبيهة بأختام السومريين (١٩).
وما من أحد يعرف من أين جاء هؤلاء المصريون الأولون. ويميل بعض العلماء الباحثين إلى الرأي القائل بأنهم مولودون من النوبيين والأحباش واللوبيين من جهة، ومن المهاجرين من الساميين والأرمن من جهة أخرى (٢٠)، فالأرض حتى في ذلك العهد السحيق لم تكن تسكنها سلالات نقية. ويرجح أن الغزاة أو المهاجرين الذين وفدوا من غرب آسية قد جاءوا معهم بثقافة أرقى من ثقافة أهل البلاد (٢١)، وأن تزاوجهم مع هؤلاء الأهلين الأقوياء قد أنجب سلالة هجينة كانت مطلع حضارة جديدة كما هو الشأن في جميع الحضارات. وأخذت هذه السلالات تمتزج امتزاجا بطيئاً حتى تألف من امتزاجها فيما بين عام ٤٠٠٠، و ٣٠٠٠ ق. م شعب واحد هو الشعب الذي أوجد مصر التاريخية.