وبذلت الدولة الصغيرة كل ما في وسعها لتكفر عما أحاط بمولدها ونشأتها من غدر وخيانة، فأخذت تنافس الإسكندرية بوصفها مركزاً للعلم والفن؛ فلم تنفق كل ما عاد عليها من خيرات المناجم، والكروم، وحقول الغلال، ومن نسيج الصوف وصناعة رقائق الجلد والعطور، والآجر والقرميد، ومن سيطرتها على تجارة بحر إيجة، نقول إنها لم تنفق كل ما عاد عليها من هذا في إنشاء جيش وأسطول قويين بل أنفقت جانباً كبيراً منه في تشجيع الأدب والفن؛ ذلك أن ملوك برجموم كانوا يؤمنون بأن الحكم والأعمال التجارية والمالية الخاصة تستطيعان أن تتنافسا تنافساً يؤتي خير الثمرات، وأن تقضيا على كثير من أسباب العجز والشره. فقد كان الملك يستخدم العبيد في زرع مساحات واسعة من الأرضين، ويدير كثيراً من المصانع، والمحاجر والمناجم، وإن لم يكن ذلك بطريق الاحتكار. وبهذه الطريقة الفذة ازدادت الثروة وتضاعفت، وأضحت برجموم حاضرة مزخرفة، اشتهرت بمذبح زيوس، وبقصورها الفخمة، وبمكتبتها الجامعة، ودار تمثيلها العظيمة، وبما كان فيها من مساحات رياضية وحمامات؛ بل إن ما كان فيها من دورات مياه عامة ليشهد بفضل إدارتها البلدية (١١). ولم تكن مكتبتها الجامعة يفوقها في عدد مجلداتها، وفي شهرة علمائها الواسعة إلا مكتبة الإسكندرية وحدها، وكان معرض صورها يحتوي على مجموعة عظيمة من الرسوم الملونة يتردد عليها الزائرون ليستمتعوا بجمالها. وظلت برجموم خمسين عاماً أنضر زهرة في الحضارة الهلينية.
وكان بيت سلوقس في هذه الأثناء آخذاً في الاضمحلال والفناء. ذلك أن قيام الممالك المستقلة في أنحاء الإمبراطورية السلوقية كان يقصر سلطان الملوك السلوقيين على سوريا وبلاد الجزيرة. وأخذت بارثيا وبرجموم، ومصر، ورومة تعمل جاهدة في صبر وأناة لإضعاف هذه الأسرة، يساعدها على هذا