الأسف أن أخرج هذه الفكرة العظيمة إلى حيز الوجود قد أفسدته لغة ذلك الوقت اليونانية الفاسدة، ونقده المر لغيره من المؤرخين، واقتصاره تقريباً على شؤون الحرب والسياسة، وتقسيمه قصته تقسيماً سخيفاً إلى دورات أولمبية، وكتابة تاريخ جميع أمم البحر الأبيض المتوسط في كل دورة مقدارها أربع سنوات، وما أدى إليه ذلك من استطرادات مملة ومن انعدام التسلسل إلى حد يحير القارئ ويضله. ويسمو بولبيوس في قصته أحياناً إلى البلاغة المسرحية، ولكنه يتجنب بشدة الأسلوب الخطابي المزخرف الذي كان شائعاً بين من سبقوه مباشرة من الكتاب، حتى أنه ليفخر بثقل أسلوبه وخلوه من البهجة (٤٨). وفي ذلك يقول أحد النقاد الأقدمين. "لا أعرف قط رجلاً قرأ كتابه من أوله إلى آخره"(٤٩). ولقد كاد العالم أن ينساه، ولكن المؤرخين سيظلون دهراً طويلاً يدرسون كتابه لأنه كان من أعظم أصحاب النظريات في كتابة التاريخ وأعظم من طبقوها في كتاباتهم، ولأنه جرؤ على أن يكون واسع الأفق في كتابته، وأن يكتب "تاريخاً عاماً"؛ ولأنه فوق هذا وذاك أدرك أن الحقائق وحدها لا قيمة لها إلا مع شرحها وتفسيرها، وأن الماضي لا قيمة له إلا من حيث هو جذورنا المتأصلة والضوء ينير لنا حاضرنا ومستقبلنا.