هؤلاء المثالون من قيود العرف التي كانت تسود العصر الزاهر القديم، فانهمكوا في إبراز العواطف الرقيقة، وصوروا بإحساس قوي وإخلاص عظيم رعاة يموتون بعد أن تكشفت لبصائرهم حقيقة الحب وآلامه، ورؤوساً جميلة سابحة في أحلام اليقظة، وأمهات يفكرن بحنان في أبنائهن: لقد بدت لهم هذه الموضوعات أيضاً جزءاً من الحقيقة الخليقة بالتسجيل؛ ثم واجهوا في آخر الأمر حقائق الألم والحزن، والفواجع المحزنة، والموت في شرخ الشباب، وعقدوا النية على أن يجدوا لها مكاناً فيما يمثلونه من نواحي الحياة البشرية.
وليس ثمة دارس مستقل في تفكيرهِ يطاوعه عقله على أن يصدر حكماً عاماً شاملاً على اضمحلال العصر الهلنستي؛ فما أسهل أن يتخذ حكم عام كهذا حجة يتذرع بها لاختتام قصة بلاد اليونان قبل أن يكشف عما كان لها من شأن في الحضارة العالمية. نعم إننا نشعر في ذلك العصر ببطيء في قوة الابتكار، ولكن هذا يعوضه كثرة منتجات الفن بعد أن أصبحت لها السيطرة التامة على أدواته. وإذ كان الشباب لا يدوم أبداً، وإذ لم يكن لمفاتنه أعلى مقام في الحياة؛ فقد كان لا بد أن يحل الخمود الطبيعي بحياة بلاد اليونان كما يحل الخمود بكل حياة، وأن تتقبل عهد الشيخوخة والنضوج. لقد دب دبيب الاضمحلال في البلاد، وأخذت عوامل الضعف تعمل عملها في الدين والأخلاق والآداب، ووسمت بميسمها أعمالاً فردية في أماكن متفرقة في البلاد؛ ولكن قوة العبقرية اليونانية الدافقة أبقت الفن اليوناني، كما أبقت العلوم والفلسفة اليونانية، قرب ذروته إلى آخر أيام ذلك العصر، ولم يبلغ هيام اليونان بالجمال ولا قدرتهم وصبرهم على تجسيده في أيام شبابهم وعزلتهم مثل ما بلغه هيامهم وقدرتهم وصبرهم في العصر الهلنستي، أو كان لهذه الصفات قوة دافعة وآثار عظيمة في مدن الشرق الغافلة في العهد الأول مثل ما كان لها في هذا العصر الذي نتحدث عنه. وفي هذه المدن وجدتها رومة ونقلتها إلى سائر بلاد العالم.