والصفات والكميات، والفضائل، والانفعالات، والنفس والجسم، والله والنجوم، كلها صور مادية أو عمليات، تختلف في درجة رقتها، ولكنها واحدة في جوهرها (٥٤). غير أن المادة كلها حركية، مملوءة بالتوتر والقوى، لا تنقطع عن العمل على الانتشار أو التركيز، يبعث فيها الحياة من داخلها وخارجها النشاط والحرارة أو النار. والعالم يعيش بواسطة عدد لا يحصى من دورات التمدد والانكماش، والتطور والانحلال، يحترق من آن إلى آن في لهب عظيم، ثم يتشكل على مهل من جديد. ثم يعود فيمر في تاريخه القديم كله بأدق تفاصيله (١) لأن تسلسل العلل والمعلولات يسير في دائر مفرغة ويتكرر إلى غير نهاية. وكل الحوادث وكل أعمال الإدارة مقررة معينة، ومن المستحيل على شيء ما أن يحدث على نحو يخالف ما حدث عليه، كما أنه يستحيل على شيء أن ينشأ من لا شيء؛ ولو حدثت أية ثغرة في السلسلة لتمزق العالم.
والله في هذا النظام هو البداية والوسط والنهاية. وكان الرواقيون يعترفون بضرورة وجود الدين ليكون أساساً للأخلاق الفاضلة؛ فكانوا ينظرون نظرة التسامح اللطيفة لعقائد الشعب الدينية وما فيها من شياطين، ومن تنبؤ بالغيب، وكانوا يجدون لهذه تفسيرات مصوغة في تشبيهات ومجازات يسدون بها الثغرة الفاضلة بين الخرافة والفلسفة. وكانوا يقبلون علم التنجيم الكلداني ويعتقدون بصحته في جوهره، ويرون أن شؤون الأرض تنطبق انطباقاً خفياً مستمراً على حركات النجوم (٥٥). فكان ذلك لديهم صورة من صور التعاطف العالمي الذي يجعل كل ما يحدث في جزء منه يؤثر في سائر الأجزاء. وكأنهم أرادوا ألا يكتفوا بوضع نظام أخلاقي للمسيحية، بل شاءوا أن يضعوا لها أيضاً نظامها الديني، ففكروا في العالم، والشرائع، والحياة، والنفس، والأقدار من حيث
(١) وإنا ليسرنا ويقضي على مخاوفنا أن نعلم أن من الرواقيين من لم يكونوا واثقين كل الثقة من هذه المسألة.