كل وطنية تقف في سبيل ولائه للإنسانية بأجمعها؛ فهو والحالة هذه مواطن عالمي. وكان زينون، وهو الذي يجري في عروقه، كما سبق القول، الدم اليوناني والدم السامي، يتوق كما يتوق الإسكندر لتحطيم الحواجز العنصرية والقومية؛ وإن نزعته الدُّوَلية لتكشف عن فكرة الإسكندر التي كانت آخذة في الزوال، فكرة توحيد بلاد شرق البحر الأبيض المتوسط. وكان زينون وكريسبوس يأملان في آخر الأمر أن يحل مجتمع واحد كبير محل تلك الدول والطبقات المتطاحنة؛ وألا يكون في هذا المجتمع الجديد أغنياء وفقراء، أو سادة وعبيد؛ يحكمه الفلاسفة فلا يظلمون، ويكون فيه الناس جميعاً أخوة لأنهم أبناء إله واحد (٦٥).
وملاك القوى أن الرواقية كانت فلسفة نبيلة، وأنها كانت فلسفة عملية إلى حد أبعد مما يتوقعه الساخر منها في الوقت الحاضر. لقد وحدت هذه الفلسفة جميع عناصر الفكر اليوناني وبذلتها في مجهود نهائي قام به العقل الوثني لوضع نظام أخلاقي ترتضيه الطبقات التي خرجت على الدين القديم؛ ومع أنه لم ينضوِ تحت لوائها إلا أقلية ضئيلة، فإن هذه الأقلية أينما وجدت كانت خير العناصر. وقد أنتجت كما أنتج المذهبان المسيحيان المقابلان لها- وهما الكلفنية والمتزمتة- أقوى الأخلاق في زمنها. على أننا إذا نظرنا إلى هذه الفلسفة من الوجهة النظرية رأينا عقيدة شاذة مروعة تهدف إلى كمال قاسٍ يتطلب من أصحابهِ اعتزال المجتمع، لكنها في واقع الأمر قد خلقت رجالاً شجعاناَ، قديسين أطهاراً، خيرين أمثال كاتو الأصغر، وإبكتتس Epictetus، وماركس أورليوس. ولقد تأثر بها الروماني فوضع على هديها تشريعاً للأمم غير الرومانية، وأعانت على حفظ كيان المجتمع القديم حتى ظهر له دين جديد. ولسنا ننكر أن الرواقيين قد شدوا من أزر الخرافات، وأنهم كان لهم أثر سيئ في العلوم الطبيعية، ولكنهم رأوا بنافذ بصيرتهم المشكلة الأساسية القائمة في عصرهم