للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الأبيقوريين للسياسة واتجاههم نحو القوانين الأخلاقية، وفرارهم من الدولة إلى الروح، لم يكن هذا كله إلا لحظة قصيرة في الرجعة إلى العهد الأول؛ وقد مهد قصر الاهتمام على النجاة الفريدية الطريق إلى ظهور دين يستهوي الفرد أكثر مما يستهوي الدولة. وكان ثمة كثيرون من الناس لا يستطيعون أن يجدوا في الحياة ما وجده فيها أبيقور من سلوى اقتنع بها ورضي، فقد حلت بهم الفاقة، أو مصائب الدهر، أو المرض، أو الثكل، أو الثروة، أو الحرب؛ وتركت نصائح الدهر كلها أفئدتهم فارغة. وها هو ذا هجسياس القوريني Hegesias of Cyrene قد بدأ في نظر القوريين كما بدأ أبيقور، ولكنه انتهى إلى الاعتقاد بأن في الحياة من الألم أكثر مما فيها من اللذة، ومن الحزن أكثر مما فيها من الفرح، وأن النتيجة الوحيدة التي تتمخض عنها الفلسفة الطبيعية هي الانتحار (١). وقد فعلت الفلسفة ما تفعله الابنة الضالة بعد المغامرات المبهجة وزوال الخدع عن بصيرتها، فأقلعت عن الجري وراء الحقيقة والبحث عن السعادة، وعادت بعد أن تابت وأنابت إلى أمها الدين، تبحث فيه مرة أخرى عن أسس تقيم عليها آمالها ومبادئ تؤيد بها صدقاتها.

وبينما كانت الرواقية تسعى لإقامة صرح القانون الأخلاقي للطبقات المفكرة، كانت تعمل أيضاً للاحتفاظ بمعونة القوى غير الطبيعية لتدعم بها أخلاق الرجل العادي، وصبغت فكرتها الميتافيزيقية والأخلاقية صبغة دينية أخذت تقوى على مر الزمان. وكان زينون ينكر كل وجود حقيقي للآلهة التي يقول بها العامة (٦٧)، ولكن أقلانيتوس بعد جيل واحد اقترح محاكمة أرستارخوس لأنه ملحد. ولم يكن زينون يدعو إلى شيء من الفساد الخلقي الشخصي، ولكن سكنا كان يتحدث عن النعيم في الدار الآخرة بألفاظ لا تكاد تفترق في شيء


(١) وقد بلغ من فصاحته في تأييد ما أدلى به من حجج أن ثارت في الإسكندرية موجة من الانتحار اضطر بطليموس الثاني على أثرها أن يخرجه من مصر (٦٦).