إلى الشرق الأدنى وصقالبة الشمال. وأمسك المسيحيون السوريون بشعلة الحضارة اليونانية وأسلموها للعرب واخترق بها هؤلاء إفريقية إلى أسبانية. وأخذ البيزنطيون، والمسلمون، واليهود ينقلون الروائع اليونانية إلى إيطاليا أو يترجمونها لها؛ لينشئوا بها أول الأمر فلسفة المدرسيي، ثم يوقدون بها شعلة النهضة الأوربية، وأخذت روح اليونان منذ ميلاد العقل الأوربي للمرة الثانية تسري في الثقافة الحديثة سريانا بلغ من قوتهِ أن "جميع الأمم المتحضرة أضحت اليوم مستعمرات لهلاس في كل ما يتصل بالنشاط الذهني (١).
وإذا لم ندخل في التراث اليوناني ما اخترعه اليونان فحسب بل أدخلنا فيه أيضاً ما أخذوه عن ثقافات أقدم من ثقافاتهم ونقلوه بشتى الطرق إلى ثقافتنا، وجدنا هذا التراث في كل ناحية من نواحي الحياة الحديثة. فصناعاتنا اليدوية، وفن التعدين، وأصول الهندسية العلمية، وأساليب المل والتجارة، وتشريعات العمل، وتنظيم التجارة والصناعة- كل هذا قد انتقل إلينا خلال مجرى التاريخ من رومة، ومن بلاد اليونان عن طريق رومة. فديمقراطياتنا ودكتاتورياتنا على السواء ترجعان إلى المثل اليونانية؛ ومع أن اتساع رقعة الدول قد أوجدت نظاماً تمثيلياً لم يكن معروفاً لهلاس، فإن الفكرة الديمقراطية القائلة بقيام حكومة مسؤولة أمام المحكومين، وفكرة المحاكمة على أيدي المحلفين، والحريات المدنية التي تشمل حرية الفكر، والتعبير، والكتابة، والاجتماع، والعبادة، كل هذه قد استمدت قوتها من التاريخ اليوناني. وهذه هي الخصائص التي تميز اليوناني عن الشرقي، والتي وهبته استقلالاً في الروح وفي المغامرة جعله يسخر من الخضوع والاستسلام والقصور الذاتي.
(١) إن ازدياد معلوماتنا عن الحضارتين المصرية والأسيوية ليضطرنا إلى تعديل كبير في قول سير هنري مين Sir Henry Maine المأثور والمبالغ فيهِ كثيراً وهو: "إذا استثنينا قوى الطبيعة العمياء، لم نجد شيئاً يتحرك في هذا العالم إلا وهو يوناني في أصله" (٢).