بها نفسه منهم ولا يستريح حتى يكفل للجيش كل حاجاته، وكان يقسمهم كل ما يصيبهم من شر وخير. أما الرومان فكانوا يتهمونه بالبخل والقسوة والغدر، لأنه لم يكن يتقيد بمبدأ من المبادئ يحول بينه وبين الاستيلاء على المؤن لجنده، وكان يجازي على الخيانة وعدم الولاء أشد الجزاء، وكان ينصب لأعدائه كثيرًا من الشراك. ولكننا كثيراً ما نجده مشفقاً رحيماً، ونراه على الدوام شهماً ذا مروءة. ويقول عنه ممسن Mommsen ذلك القول الحكيم وهو "أنه ليس فيما يروى عنه شيء لا يمكن أن تبرره ظروف وقته والقوانين الدولية التي كانت سائدة في أيامه (٢٣) ". ولم يكن في وسع الرومان أن يرضوا عنه لأنه كان يكسب الوقائع الحربية بعقله لا بدماء رجاله، ذلك أن الحيل التي كان يحتال بها عليهم، ومهارته في التجسس عليهم ومعرفة أسرارهم، وعلمه بفنون الحرب والحركات العسكرية، وقدرته على مباغتة أعدائه، كل هذا ظل فوق إدراكهم وتقديرهم حتى دمرت قرطاجنة.
وحدث في عام ٢١٩ ق. م أن دبر عمال رومه في سجنتم انقلاباً سياسياً أقام في المدينة حكومة وطنية معادية لقرطاجنة. ولما أساء أهل المدينة معاملة بعض القبائل الموالية لهنيبال، وأمرهم بالكف عن هذه المعاملة السيئة، فلما رفضوا طلبه حاصر المدينة، فاحتجت رومه على قرطاجنة وأنذرتها بالحرب؛ فكان رد قرطاجنة أن سجنتم تبعد عن نهر إبره Ebro مائة ميل نحو الجنوب، وأن ليس من حق رومه أن تتدخل في هذا النزاع، وأنها إذ وقعت معاهدة مع تلك المدينة أخلت بشروط معاهدتها مع هزدروبال. وواصل هنيبال الحصار، وامتشقت رومه الحسام مرة أخرى، وهي لا تدري أن هذه الحرب البونية الثانية ستكون أشد هولاً من جميع الحروب التي خاضت غمارها في تاريخها كله.
وقضي هنيبال في إخضاع أهل سجنتم ثمانية أشهر كاملة، وذلك لأنه لم يكن يجرؤ على التقدم لغزو إيطاليا ويترك لرومه من ورائه ثغرًا هاماً