المحنة .... وشاهد ذلك أنهم وإن منوا بأشد الهزائم، وخسروا سمعتهم الحربية، استطاعوا، بفضل ما كان لدستورهم من المزايا التي لا يشاركه فيها دستور غيره، وبالاستماع إلى حسن المشورة، أن يستردوا سيادتهم على إيطاليا … وأن يصبحوا بعد قليل من السنين سادة العالم (٢٧)". وفي هذه الساعة الرهيبة سكنت حرب الطبقات، وتدافعت كل الطوائف للعمل على إنقاذ الدولة. وكانت الضرائب قبل ذلك الوقت قد ارتفعت حتى ظن أنهم لن يطيقوها، ولكن السكان، ومنهم الأرامل والأطفال، تقدموا راضين لخزانة الدولة بما كانوا قد ادخروه لأيام الشدة. وجند كل رجل قادر على حمل السلاح، وحتى الأرقاء قد قبلوا في الفيالق ووعدهم أسيادهم بأن يهبوهم حريتهم إذا كتب النصر لرومه، ولم يرض جندي واحد أن يتناول عن عمله أجراً، واستعدت رومه لتنازع أسد قرطاجنة الجديد كل شبر من أرضها.
وانتظرت رومه مجيء هنيبال، ولكن هنيبال لم يأت إليها، فقد ظن أن قوته المؤلفة من أربعين ألف مقاتل أقل من أن تحاصر مدينة تتجمع للدفاع عنها جيوش من جميع الولايات التي لا تزال موالية لها، ولا يستطيع الاحتفاظ بها لو أنه استولى عليها. هذا إلى أن أحلافه من الإيطاليين لم يكونوا مصدر قوة له بل كانوا مصدر ضعف، فقد كانت رومه وأصدقاؤها يعدان العدة لمهاجمة أولئك الأحلاف، وإذا لم يخف هو لنجدتهم فسيقضي عليهم. وقد لامه رجاله على حذره وبطئه، وقال له واحد منهم والأسف يحز في نفسه: "إن الآلهة لم تمنح كل مواهبها لرجل واحد؛ أنك ياهنيبال تعرف كيف تنال النصر، ولكنك لا تعرف كيف تنتفع به (٢٨) ". لكن هنيبال استقر رأيه على أن ينتظر حتى تنضم إليه قرطاجنة، ومقدونية، وسرقوسة فيؤلف منها حلفاً ثلاثياً يستعيد به صقلية وسردانية، وقورسقة، وإليريا فلا يكون لرومه قوة إلا في إيطاليا. وبدأ بإطلاق الأسرى جميعهم عدا الرومان، وحتى هؤلاء عرضهم على رومه نظير فدية قليلة،