الجيوش الرومانية التي عادت من بلاد الشرق تيار دافق من "اليونان الصغار" Graeculi كما كان يسميهم الرومان استهزاء بهم. وكان منهم أرقاء كثيرون استخدموا معلمين في الأسر الرومانية، ومنهم النحاة الذين أنشئوا الدراسات الثانوية في رومه بما افتتحوه من المدارس لتعليم لغة اليونان وآدابهم؛ ومنهم البلغاء الذين كانوا يلقون محاضرات عامة في فن الخطابة والأدب والإنشاء والفلسفة، أو يعطون فيها دروساً خاصة. وشرع الخطباء الرومان- حتى من كان منهم يبغض الثقافة اليونانية أمثال كاتو- يتخذون خطب ليسياس Lysias، وإيسكين Aeschines ودمستين Demosthenes نماذج لهم ينسجون على منوالها.
ولم يكن لهؤلاء المدرسين اليونان دين يؤمنون به إلا القليلين منهم، وأقل من هؤلاء المتدينين من كانوا يثبتون في قلوب تلاميذهم شيئاً من العقيدة الدينية. وكانت منهم أقلية صغيرة تحذو حذو أبيقور، وتسبق لكرييشيس في وصفه الدين بأنه أكبر الشرور في حياة الشر. وأدرك الأشراف مهب العاصفة وحاولوا أن يسدوا عليها الطريق، فنفى مجلس الشيوخ من البلاد في عام ١٧٣ اثنين من الفلاسفة أو البلغاء". ولكن العاصفة لم تسكن، فقد جاء إلى رومه في عام ١٥٩ كراتس الملوسي Crates of Mallus مدير المكتبة الملكية الرواقي في برجموم في عمل رسمي، وكسرت فيها ساقه، فأقام بها، وأخذ وهو في دور النقاهة يلقي محاضرات في الأدب والفلسفة. وفي عام ١٥٥ بعثت أثينا إلى رومه سفراء من أهلها كانوا زعماء المدارس الفلسفية الثلاث العظيمة: كارنيدس Carneades الأكاديمي أو الأفلاطوني، وكرتولوس Critolaus المشائي أو الأرسطاطيلي وديوجين Diogenes الرواقي السلوسي (of Selucia) . وكان قدوم هؤلاء إلى رومه مبعث نهضة علمية وفلسفية لا تكاد تقل في قوتها عما بعثه قدوم كرسولوراس Chrysoloras إلى إيطاليا في عام ١٤٥٣. وتحدث كارنيدس عن البلاغة