أن كلاً من لا يعرف ما يريد فيعمل دائباً لتبديل مكانه ظناً منه أن في استطاعته أن يلقى حمله عن عاتقه. فهاك رجلاً قد مل الحياة في منزله، فتراه يخرج من قصره بين الفينة والفينة، ولكنه لا يجد نفسه في خارج الدار أحسن منه حالاً في داخلها فيعود إليها فجأة، فتراه مسرعاً يسوق جياده إلى بيته الريفي لا يلوي على شيء .. ولكنه لا يكاد يجتاز عتبة الدار حتى يتثاءب أو يحاول نسيان متاعبه في النوم العميق. وقد بلغ به الأمر أن يعود من فوره إلى المدينة. وهكذا يفر كل امرئ من نفسه، ولكن نفسه التي لا يستطيع الفرار منها تزيد التصاقاً به رغم إرادته كما هو المنتظر منها، وهو يكره نفسه لأنه وهو إنسان مريض لا يعرف سبب شكواه. وكل من يستطيع أن يرى هذا بوضوح يطرح عمله من ورائه ظهرياً، ويسعى قبل كل شيء لفهم طبيعة الأشياء.
وكل ما نعرفه عن حياة تيتس لكريشيوس كارس Titus Lucretius carus هو قصيدته. ولم يشأ أن يذكر في هذه القصيدة شيئاً عن نفسه؛ أما فيما عداها فإن الأدب الروماني يغفل إغفالاً عجيباً شأن رجل من أعظم رجاله إذا استثنينا إشارات قليلة في مواضع منه مختلفة. وتحدد الرواية المأثورة تاريخ مولده بعام ٩٩ أو ٩٥، وتاريخ وفاته بعام ٥٥ أو ٥١ ق. م، أي أنه عاش نحو خمسين سنة من سني الثورة الرومانية: سني الحرب الاجتماعية، ومذابح ماريوس، وإرهاب صلا، ومؤامرة كاتلين، وقنصلية قيصر. وكانت الأرستقراطية التي ينتمي إليها في الأغلب الأعم آخذة في الانحلال البادي للعيان؛ وكان العالم الذي يعيش فيه يتصدع ويتردى في الفوضى التي لا يأمن فيها أحد على حياته أو ماله. وقصيدته حنين منه إلى الراحة الجسمية والسلامة العقلية.
ولجأ لكريشيوس من متاعب العالم إلى الطبيعة والفلسفة والشعر. ولعله أيضاً قد عرج على الحب، فإذا كان قد وقع له شيء منه فما من شك في أنه لم يوفق فيه، لأنه يقسو في كتابته على النساء، ويشهر بفتنة الجمال،