تحير عقله، وبدا له أن الرجل الحر يجد في ذلك الخليط العجيب من المادية وحرية الإدارة، ومن الآلهة المرحة والعالم الذي لا يؤمن بالآلهة، جواباً عما ينتابه من شكوك ومخاوف. ولاح أن نسمة من نسمات التحرر من المخاوف السماوية تنبعث من حدائق أبيقور، وتكشف عن سلطة القانون العليا واستقلال الطبيعة بشؤونها وسلطانها على مصائرها، ومن أن الموت أمر طبيعي لا تلام عليه. ولذلك اعتزم لكريشيوس أن ينتزع هذه الفلسفة من النثر القبيح الذي صاغها فيه لكريشيوس ويصهرها فيخرجها شعراً، ثم يقدمها لمعاصريه على أنها هي الطريقة المثلى، وهي الحقيقة، بل هي الحياة نفسها. وكان يحس أن في نفسه قوة نادرة مزدوجة- فيها إدراك العالِم الموضوعي، وعاطفة الشاعر الذاتية؛ ويرى في نظام الطبيعة بأكمله سمواً، وفي عناصرها جمالاً، بشجعان ويبرران هذا التزاوج بين الفلسفة والشعر. وقد أبرز هذا الهدف العظيم الذي كان يعلم له جميع قواه الكامنة وسما به إلى مستوى رفيع فذ من الرقي الفعلي، ثم تركه قبل أن يبلغ هذا الهدف منهوكاً خائر القوى، أو لعله تركه ناقص العقل مخبولاً. غير أن كدحه الطويل المبهج المطرب قد حباه بسعادة استحوذت عليه فصب فيها كل ما كان كامناً في روحه الدينية من إخلاص عميق.
ولم يختر لكريشيوس لقصيدته عنواناً شعرياً بل اختار لها عنواناً فلسفياً هو: De Rerum Natura " في طبيعة الأشياء"، وهي ترجمة بسيطة لعبارة Peri Physeos (عن الطبيعة) التي اختارها الفلاسفة قبل سقراط اسماً عاماً لرسالاتهم. وبعد أن كتبها قدمها لأبناء كيوس مميوس Caius Memmius في عام ٥٨ ق. م لتكون لهم سبيلاً هادياً يخرجهم من الخوف إلى الإدراك. وقد حذا في طريقة عرضه لما احتوته من الآراء طريقة أنبادقليس في ملحمته، كما احتذى في تعبيره لغة إثيوس العجبية الخالية من الزخرف والتجميل، واختار لها