ولا ينكر لكريشيوس وجود الآلهة، ولكنه يقول إنها تقيم بعيدة عنا، سعيدة كل السعادة في عزلتها وبعدها عن أفكار البشر ومتاعبهم، هنالك "وراء أسوار العالم المشتعلة" (extar flammantia moeine mundi) بمنأى عن ضحايانا وصلواتنا، وهي تعيش كما يعيش أتباع أبيقور بعيدة عن الشؤون الدنيوية، فائقة بتأمل الجمال وعمل ما تتطلبه الصداقة والسلام (٨). وليست الآلهة في رأيه هي التي خلقت العالم، وليست هي سبب ما يقع فيه من الأحداث، فمن ذا الذي يظلمها ذلك الظلم الصارخ فيتهمها بأنها سبب ما في الحياة على الأرض من تلف، واضطراب، وآلام، ومظالم؟ كلا إن هذا الكون اللانهائي الذي يشمل عدة عوالم مستقل عما سواه، ولا شأن له بغيره، ولا يسيطر عليه قانون خارج عنه؛ فالطبيعة تفعل كل شيء من نفسها. من ذا الذي أوتي من القوة ما يستطيع به أن يتصرف في الأشياء مجتمعة، ويقبض بيده على ذلك العنان القوي عنان الأبدية التي لا قرار لها؟ من ذا الذي يستطيع أن يحرك السموات كلها دفعة واحدة .. ويهز السماء الصافية بالرعد القاصف، ويقذف بالبرق فيزلزل به في كثير من الأحيان هياكل الآلهة، ويرسل الصواعق فيقضي بها على البريء وينجو منها المجرم" (٩). إن إله الكون الذي لا إله سواه هو القانون، وأصدق العبادات، والسبيل الوحيد إلى السلام أن يعرف الناس ذلك القانون ويحبوه. إن مخاوف العقل وظلمته لا تبددها أشعة الشمس … بل يبددها النظر في قوانين الطبيعة (١١).
وهكذا "يمس" لكريشيوس "برحيق ربات الشعر" مادية دمقريطس الخشنة، ويصرح بأن مبدأه الأساسي المقرر أن لا وجود إلا للذرات والفراغ"(١٢) أي المادة والفضاء، ثم ينتقل من فوره إلى مبدأ جوهري (وافتراض) من مبادئ العلم الحديث، وهو أن ما في العالم من مادة وحركة لا يتغير أبداً، وألا شيء ينشأ من لا شيء، وأن ليس الإتلاف والتحطيم إلا تغيراً في الشكل، وأن الذرات لا تتحطم، ولا تتبدل، وأنها