ليس من الحكمة أن يعبرا في صراحة عن إعجابهما بلكريشيوس ويعترفا بما في عنقهما له من دين يضاف إلى هذا أن الفلسفة الأبيقورية لن تكن توائم العقل الروماني، كما كانت أعمال الأبيقوريين توائم الذوق الروماني في عصر لكريشيوس (١)، فقد كانت رومه في حاجة إلى رجل ذي فلسفة ميتافيزيقية يمجد القوى الصوفية الباطنية لا القوانين الطبيعية، والى عالم أخلاقي ينشئ شعباً حربياً كامل الرجولة لا شعباً من أصحاب النزعة الإنسانية المحبين للسلم والهدوء؛ وكانت في حاجة إلى فلسفة سياسية شبيهة بفلسفتي فرجيل وهوراس، تبرر سيطرة رومه الإمبراطورية. ولما بعث الدين من جديد بعد سنكا كاد الناس ينسون لكريشيوس، ولم يبدأ يظهر أثره في الفكر الأوربي إلا بعد أن كشفه بجيو Poggio من جديد في عام ١٤١٨ ب. م. وقد أخذ طبيب من مدينة فيرونا Varona يدعى جيرولامو فراكستورو Girolamo Fracastoro (١٤٨٣ - ١٥٥٣) عن الشاعر نظريته التي يقول فيها إن المريض ينشأ من "بذور" Semina خبيثة تسبح في الهواء، وفي عام ١٦٤٧ أحيا جاسندي Gassndi الفلسفة الذرية. وكان فلتير يقرأ في طبيعة الأشياء في خشوع ويقول كما قال أوفد Ovid إن ما فيها من أبيات ثورية سيبقى ما بقيت الأرض (٣٠).
وقد خاض لكريشيوس بمفرده أقسى الوقائع في زمانه ونعني بها إحدى وقائع الحرب الأبدية بين الشرق والغرب، بين "القلب الحنون" والإيمان الباعث للسلوى المخفف للأحزان من جهة، والعقل العنيد الجاسي والعلم المادي من جهة أخرى. ولسنا في حاجة إلى القول بأنه أعظم الشعراء الفلاسفة، وأنه هو الذي سما بالأدب اللاتيني ما سما به كاتلس وشيشرون إلى ذروة مجده؛ وبه انتقلت زعامة الأدب نهائياً من بلاد اليونان إلى رومه.
(١) سنستخدم لفظي أبيقوري في هذه المجلدات بمعنى المؤمن بفلسفة أبيقور وزينون فيما وراء الطبيعة وفي الأخلاق. وقد نستعملها في بعض الأحيان لوصف الشخص الذي يميل إلى الدعة والنعيم في الحالة الأولى أو إلى تجنبهما الحالة الثانية.