خلواً من المصطلحات الفلسفية والعلمية، بل خلقها ثم وجه الكلام القديم وجهات جديدة من حيث الوقع والجرس، وصاغ الوزن السداسي صياغة أكسبته حيوية وقوة لم تكن له في أية لغة أخرى من اللغات المعروفة، وسما به بين الفينة والفينة إلى درجة من الرقة والجمال والسلاسة لا تقل من نظائرها في شعر فرجيل. وإن ما في القصائد لكريشيوس من حيوية لا نفارقه في وقت من الأوقات ليدل على أنه قد استمتع بحياته كلها، لم يكد يترك فيها فترة قصيرة أو طويلة من يوم مولده إلى يوم وفاته إلا عاش خلالها على الرغم مما كان يحيط به من آلام متعددة وخيبة مريرة.
وكيف مات لكريشيوس؟ يقول القديس جيروم Saint Jerome إن "لكريشيوس قد جن على أثر تجرعه دواء يولد الحب، بعد أن كتب عدة كتب .. م مات منتحراً في الرابعة والأربعين من عمره"(٢٨). وليس لهذه القصيدة ما يؤيدها، ويشك الكثيرون في صحتها، ولسنا نعتقد أن قديساً يستطيع أن يروي رواية عن حياة لكريشيوس منزهة عن الهوى. وقد وجد بعضهم ما يؤيد هذه القصة في قصيدته نفسها؛ ذلك أن منها شواهد على الذهن المكدود غير الطبيعي، فضلاً عن أن موضوعاتها مهوشة غير منظمة، وأنها مقتضبة تنتهي انتهاء فجائياً غير متوقع (٢٩). ولكن الإنسان ليس في حاجة إلى أن يكون لكريشيوس- ولكريشيوس دون غيره- لكي يكون حاد المزاج سريع التهيج، مهوشاً، ولكي يموت.
لقد كان لكريشيوس كما كان يوربديز رجلاً من الطراز الحديث، وكان تفكيره وإحساسه يوائمان عصرنا الحاضر أكثر مما يوائمان القرن الأول قبل ميلاد المسيح. وقد تأثر به هوارس وفرجيل في أيام شبابهما، وهما يذكرانه من غير أن يبوحا باسمه في كثير من عباراتهما الجزلة، ولكن الجهود التي كان يبذلها أغسطس لإعادة الدين القديم قد جعلت هذين الشاعرين وهما صنيعتا أغسطس يريان أن