فتهاجم جدران السماء من كل جوانبها وتتصدع ثم تتهدم وتخرب (٢٣). ولكن ساعة الفناء نفسها تكشف عما في العالم من حيوية لا تقهر "ويمتزج بالعويل على الموتى البكاء على الطفل الوليد"(٢٤) وتتكون عوالم جديدة ونجوم وكواكب جديدة، وتنشأ أرض أخرى وحياة غير الحياة الأولى، ويبدأ التطور من جديد.
وإذا ألقينا نظرة عامة على هذه القصيدة التي تعد "أروع نتاج الأدب القديم كله"(٢٥)، فقد نلاحظ لأول وهلة ما فيها من عيوب: كاضطراب موضوعاتها التي حال موت الشاعر في مقتبل العمر دون مراجعتها، وتكرار عباراتها وأبياتها وفقرات منها برمتها، واعتقاده أن الشمس والقمر والنجوم ليست في حقيقتها أكبر مما تبدو للناظر إليها (٢٦)، وعجز النظام الذي تشرحه القصيدة عن أن يفسر كيف تستحيل الذرات الميتة إلى حياة وإدراك، وإغفال الشاعر ما يبعثه الإيمان في المؤمن من نظر ثاقب وطمأنينة وساوى، وإلهام وشاعرية قوية محركة، كما أغفل ما للدين من آثار اجتماعية. ولكن ما أقل هذه الأغلاط وما أضعف شأنها أمام المحاولة الجريئة التي بذلها الشاعر لتفسير العالم والتاريخ والدين والمرض تفسيراً منطقياً معقولاً (١)، وأمام ما صور به الطبيعة من أنها عالم يسيطر عليه القانون لا يعتري المادة والحركة فيه زيادة أو نقصان. وأمام عظمة الموضوع الذي تحدث عنه ونبل الطريقة التي عرض بها؛ وأمام قوة الخيال المتصلة التي تشعر في كل مكان "بجلال الأشياء" وتسمو برؤى أنبادقليس، وعلم دمقرطيس، ومبادئ أبيقور الأخلاقية، إلى شعر يبلغ من الروعة والجمال أسمى ما بلغه الشعر المعروف في جميع العصور. فها هي ذي لغة كانت لا تزال بعد غير مصقولة ولا ناضجة تكاد في ذلك الوقت أن تكون
(١) توجد كثير من بذور الأشياء التي تعيننا على الحياة، ولكن لا شك أيضاً في أن ثمة بذوراً أخرى كثيرة تتطاير وتؤدي إلى المرض.