بعضاً بغير قانون، ويموت منهم جوعاً بقدر من يموت من المحتضرين بالتخمة (٢١).
أما الطريقة التي تمت بها الحضارة فيشرحها لكريشيوس في خلاصة موجزة لتاريخ الإنسان الطبيعي يقول فيها إن التنظيم الاجتماعي قد وهب الإنسان القدرة على البقاء بعد أن بادت الحيوانات التي كانت أشد منه قوة وبطشاً. وقد اهتدى إلى النار حين رآها تندلع من احتكاك أوراق الأشجار وأغصانها، وأنشأ من الإشارات والحركات لغة، وتعلم الغناء من الطير، وأنس الحيوان لمنفعته، كما استأنس هو بالزواج والقانون؛ ثم شق الأرض، ونسج الملابس، وصهر المعادن وصنع منها أدواته؛ ثم رصد كواكب السماء، وقاس الزمن وتعلم الملاحة؛ ثم رقى فن القتل، وتغلب على الضعفاء، وشاد المدن، وأقام الدول.
وليس التاريخ إلا موكب الدول والحضارات التي تنشأ وتزدهر ثم تضمحل وتفنى، ولكن كلاً منها تخلف وراءها تراثاً من العادات والأخلاق والفنون تتلقاه عنها الحضارات التي تأتي من بعدها "فهي كالعدائين في سباق يسلم كل منهم مصباح الحياة إلى غيره"(٢٢)
(et quasi cursores vitai lampada tradut) وكل ما ينمو من الأشياء يضمحل: الأعضاء، والكائنات الحية، والأسر، والدول، والأجناس، والكواكب، والنجوم. والذرات وحدها هي التي لا تموت أبداً، وتوجد إلى جانب قوى الخلق والنماء قوى أخرى تعادلها وتوازنها وهي قوى التدمير، وهذه لا تنقطع عن العمل ما بين دفع وجذب وتراخ وانقباض، وحيات وموت. وفي الطبيعة خير وشر، والآلام يلقاها كل كائن حي وإن لم يستحقها، والانحلال يتبع خطى كل تطور، وأرضنا نفسها في طريقها إلى الموت والفناء، وها هي ذي الزلازل تخربها وتدمرها، والأرض تفقد قدرتها على الإنتاج والأمطار والأنهار تقرضها وتفتتها، وتنقل الجبال نفسها آخر الأمر إلى البحار، وسيأتي على عالمنا النجمي كله يوم يفنى فيه كما تفنى هذه الجبال؛