للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الضيف الوليمة. وليس الموت نفسه أمراً مخيفاً رهيباً، بل الذي يسبب رهبته هو خوفنا مما نلقاه في الدار الآخرة. ولكن الدار الآخرة لا وجود لها، والجحيم هو جحيم هذه الدنيا، فهو العذاب الناشئ من الجهل والانفعالات والتخاصم والشره؛ والجنة توجد على ظهر هذه الأرض، وهي معابد الحكماء الصافية sapientum templa serena (١٧) .

وليست الفضيلة في خوف الآلهة، ولا في تجنب الملذات وخشيتها، بل هي في تناسق أعمال الحواس والمواهب بإرشاد العقل؛ ومن الناس من يفنون أعمارهم من أجل تمثال يقام لهم، أو شهرة يتحدث بها الناس عنهم، ولكن "ثروة الإنسان الحقة هي أن يعيش عيشة بسيطة وعقله في سلام" (vivere parce Aequo Animo) (١٨) ، وخير من العيش الجامد المعنت في الأبهاء المذهبة "الرقود في جماعات على الكلأ الناعم بجوار غدير تحت أشجار باسقة" (١٩)، أو سماع الألحان الموسيقية العذبة اللطيفة، أو أن يفقد الإنسان ذاته في حب أطفاله والعناية بهم، والزواج خير ولكن الحب المثير للعواطف جنون، يجرد العقل من صفائه وتدبيره. "فإذا أصابت الإنسان سهام فينوس- سواء أطلق هذه السهام غلام له أعضاء فتاة، أو أطلقتها امرأة يشع الحب من جسمها كله- فإنه ينجذب نحو مصدر الضربة ويتوق إلى الاتحاد معه" (٢٠). ولا يستطيع زواج ولا مجتمع أياً كان نوعه أن يجد قاعدة سليمة يقوم عليها في هذا الغرام الجنوني.

ولما كان لكريشيوس قد وجه عواطفه كلها نحو الفلسفة ولم يجد في قلبه متسعاً للحب، فإنه أبى أن يعود إلى العهد الروائي العاطفي القديم الذي يقول به اليونان الذين كانوا يمجدون الحياة البدائية، وينادون بالعودة إلى الطبيعة، كما مجدها روسو ونادى بالعودة إليها.

نعم لقد كان الناس في ذلك الوقت أصلب عوداً، ولكنهم كانوا يعيشون في الكهوف، ولا يعرفون الناس، ويتناكحون بلا زواج، ويقتل بعضهم