للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وفي ذلك يقول في بعض كتاباته: "إن فلسفتي في معظم الحالات هي فلسفة الشك (٦١) .. ولعلكم تأذنون لي ألا أعرف ما لا أعرفه" (٦١). ويقول في موضع آخر: "إن الذين يريدون أن يعرفوا رأيي الشخصي يظهرون قدراً من التشوف لا يقره العقل" (٦٢). ولكن ما أوتي من قدرة فائقة على التعبير سرعان ما كان يتغلب على حيائه: فيهزأ بالتضحيات الدينية، والهاتفين والعرافين. ويخصص رسالة بأكملها لإنكار القدرة على التنبؤ بالغيب، ويتساءل في معرض استنكار الاعتقاد بالتنجيم، وهو الاعتقاد الذي كان واسع الانتشار في تلك الأيام، هل كان من قتلوا في واقعة كاني قد ولدوا في مطلع نجم واحد (٦٣). بل إنه ليشك في أن العلم بالمستقبل خير لمن يعلمه، وذلك لأن المستقبل نفسه قد يكون كريهاً كغيره من الحقائق الكثيرة التي يدفعنا حمقنا إلى الجري وراءها. ويظن شيشرون أن في مقدوره أن يقضي على العقائد القديمة كلها قضاء مبرماً بالسخرية منها والاستهزاء بها. فيقول مثلاً: "إذا سميت الحب سيريز Ceres (١) وسميت الخمر باخوس Bachus كانت هذه التسمية استعارة من الاستعارات المألوفة، ولكن هل تظن أن أحداً من الناس قد بلغ به الجنون إلى الحد الذي يعتقد معه أن ما يأكله إله بحق" (٦٣). على أن شكه في الإلحاد لم يكن يقل عن شكه في أية عقيدة تحكمية أخرى. فهو يرفض العقيدة الذرية (٢) التي كان يقول بها دمقريطس ولكريشيوس، ويقول إن من أبعد الأشياء أن تنظم الذرات نفسها بلا هاد يهديها ولو ظلت تفعل كذلك أبد الدهر، ثم ينشأ من هذا التنظيم عالمنا الذي نعيش فيه. وشأنها في ذلك شأن الحروف الهجائية فإن من أبعد الأشياء كذلك أن تتجمع هذه الحروف من تلقاء نفسها فينشأ من تجمعها "حوليات إنيوس" (٦٤). ويقول إن


(١) سيريز هو الاسم الروماني لدمتر Demeter إلهة الحرث والحب عند اليونان.
(٢) هي العقيدة القائلة بأن الذرات قد تجمعت ونظمت نفسها فنشأ الكون من ذينك التجمع والتنظيم. المترجم.