جهلنا بالآلهة ليس بالدليل القاطع على عدم وجودها، بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا فيقول إن إجماع الناس على وجودها يكفي في حد ذاته لترجيح وجود قوة مدبرة. ويستخلص من هذا أن الدين نظام لابد منه للأخلاق الشخصية والنظام العام، وأنه نظام لا يمكن أن يهاجمه إنسان عاقل (٦٥)؛ ولذلك فإنه ظل يقوم بواجبات العراف الرسمي في الوقت الذي كان يكتب فيه ضد التنبؤ والعرافة. ولم يكن يعد هذا نفاقاً بمعناه الصحيح، ولعله كان يسميه سياسة وحسن التصرف. ذلك أن الأخلاق الرومانية، والمجتمع الروماني، ونظام احكم فيه، كانت كلها وثيقة الارتباط بالدين القديم، وأنه إذا أريد لها البقاء وجب ألا يترك هذا الدين كي يموت. (وكان الأباطرة يبررون اضطهاد المسيحيين بمثل هذه الحجج). ولما توفيت تليا التي كان يحبها أعظم الحب، اشتدت به نزعة الأمل في الخلود. وكان قبل ذلك بعدة سنين كثيرة قد استعار من فيثاغورس وأفلاطون وإيكسودس في "حلم سبيو" الذي اختتم به "جمهورية" أسطورة معقدة بليغة عن حياة بعد الموت، ينعم فيها الموتى العظماء الصالحين بالنعيم الأبدي. أما في رسائله الخاصة- وحتى في رسائله التي يواسي فيها الثاكلين من أصدقائه- فإنه لا يذكر قط شيئاً عن الحياة الآخرة.
وإذ كان على علم بما يسري في أيامه من نزعة التشكك فإن الأسس التي أقام عليها بحوثه في الأخلاق والسياسة كانت أسساً دنيوية محضة، لا تعتمد قط على تأييد غير القوى الطبيعية. فهو يبدأ (في De Finbus) بالتساؤل عن الطريق الموصل إلى السعادة. ثم يوافق الرواقيين في شيء من التردد على أن الفضيلة وحدها لا تكفي للوصول إليها. ومن أجل هذا تراه (في De Effcüs) يبحث عن طريق الفضيلة، ويفلح بفضل جمال أسلوبه في أن يجعل الواجب محبباً ممتعاً إلى حين، وفي ذلك يقول:"الناس جميعاً أخوة، وخليق بنا أن نعد العالم كله مدينة مشتركة للآلهة والبشر على السواء"(٦٦). ثم يواصل حديثه قائلاً إن