وفيها حب الأطفال آباءهم وإجلالهم إياهم، وفيها تهدأ حمى الرغبات والمطامح. وقد تخشى الشيخوخة الموت ولكن ذلك لا يحدث إذا كان العقل قد كونته الفلسفة، فأدرك أن وراء القبر، في أحسن الأحوال، حياة جديدة أسعد من الحياة وفي أسوئها من عنائها (٧٣).
وفي وسعنا أن نحكم على مقالات شيشرون في الفلسفة بأنها كلها ضئيلة الأثر، وأنها كآرائه في الحكم والسياسة تستمسك فوق ما يجب بالسنن القديمة والتقاليد المرعية. وسبب ذلك أنه وإن أوتي تشوف العالم فقد أوتي معه حذر أبناء الطبقة الوسطى وضعف عزيمتهم، ولذلك ظل في فلسفته نفسها سياسياً يكره أن يسيء إلى شخص واحد من الناس، خشية أن يفقد بذلك صوته يوم الانتخاب. وكان ديدنه أن يجمع آراء غيره ويجيد الموازنة بين ما لها وما عليها، فإذا انتهى من هذه الموازنة خرج السامع بعدها من نفس الباب الذي دخل منه، لا يدري أي الكفتين ترجح على الأخرى. ولولا ما امتازت به هذه الكتب الصغيرة من أسلوب سهل جميل لعفي عليها الزمان، ولما بقي لها ذكر الآن. فما أجمل لاتينية شيشرون وما أسهل قراءتها، وما أسلس لغتها وأوضحها! لقد كان إذا قص حادثة أسبغ عليها من الحيوية التي تسري في خطبه فتسترعي الأسماع وتسحر الألباب. وإذا وصف شخصاً أظهر في هذا الوصف من البراعة ما يجعل القارئ يتأسف معه لأنه لم يجد متسعاً من الوقت يمكنه من أن يكون أعظم مؤرخي رومه (٧٤)، وإذا انطلق في الخطابة أفاض على السامع جُملاً متزنة، جميلة اللفظ، قوية العبارة، مما أخذه عن إيزوقراطيس Isocrates، وجعل السوق العامة تدوي بالتصفيق والاستحسان.
إن آراء شيشرون هي آراء الطبقات العليا، أما أسلوبه فقد أراد به أيصل إلى قلوب الشعب؛ ومن أجل هذا تراه يبذل جهده لكي يكون