أن يكتبوا-في الوقت الذي تحلو لهم فيهِ الكتابة، وبالعناية والجهد اللذين يحلو لهم أن يبذلوهما في كتابتهم (١).
وأقام بعض الوقت في رومة يمتع نفسه بحياة من يتسلى بمشاهدة العالم المسرع المندفع. وكان يختلط بجميع طبقات الناس، ويدرس جميع الأصناف التي تتكون منها رومة، ويفكر في حماقات العاصمة ورذائلها وهو مسرور سرور الطبيب إذا كشف علة المريض. وقد وصف بعض تلك الأصناف في كتابين من كتب هجوه (٣٤، ٣٠ ق. م)، حذا فيهما أولاً حذو لوسليوس Lucilius، ثم خفف فيما بعد من حدتهِ وأصبح أكثر مما كان متسامحاً. وكان يطلق على هذه القصائد اسم المواعظ Sermones- وإن لم تكن مواعظ في أية صورة، بل كانت أحاديث خالية من التكلف والصناعة؛ وكانت أحياناً محاورات ودية خاصة في أشعار سداسية الوزن تكاد لغتها أن تكون هي اللغة العامية.
وقد اعترف هو نفسه بأنها نثر في كل شيء عدا الوزن، "لأنك لا تستطيع أن تطلق اسم الشاعر على رجل يكتب كما أكتب أنا أبياتاً أقرب ما تكون إلى الكلام المنثور". ونحن نلتقي في هذه الأشعار الاذعة بالأحياء من رجال رومة ونسائها، ونستمع إليهم يتحدثون كما يتحدث الرومان: فلسنا نجد فيها رعاة فرجيل وزرَّاعه وأبطاله، ولا فُساق أوفد الخرافيين وبطلاته، بل نشاهد العبد الوقح البذئ، والشاعر المزهو بنفسهِ، والمحاضر ذا الألفاظ الطنانة، والفيلسوف الشره، والثرثار الممل، والساميَّ الحريص على المال، ورجل الأعمال، والحاكم، ورجل الشارع العادي، غنشعر أنا نشهد آخر الأمر رومة الحقة. فها هو ذا هوراس يضع في قصائده لمن يشاء
(١) وقد كشف المنقبون عن ضيعة هوراس في عام ١٩٣٢، فإذا هي تشمل بيتاً ريفياً فسيحاً، يبلغ طوله ٣٦٣ قدماً وعرضه ١٤٢، بهِ أربع وعشرون حجرة وثلاث برك للاستحمام، وعدة أبواب مزينة بالفسيفساء، وحديقة واسعة يحيط بها رواق مسقوف في خارجهِ سور. ومن وراء هذا البيت ضيعة فسيحة يعمل فيها عشرة عبيد وخمس أسر من المستأجرين.