أن ينقب عن آثار الأقدمين القواعد التي يجب أن يسير عليها من يريد النجاح في هذه الحلبة التي تصطرع فيها الغيلان من الناس، ويضعها في صورة مرحة ولكنها مهلكة قاتلة (٢٩). وهو يسخر من النهمين الذين يملئون بطونهم بشهي الطعام، ولكنهم لا يستطيعون المشي على أرجلهم لأنهم مصابون بالرثية (٣٠)، ويذكر من "يمتدح الأيام الماضية" بأنه إذا جاءه إله ليعبده إلى تلك الأيام أبى وتمنع (٣١)، ويقول إن أحسن ما في الماضي هو علم الإنسان أنه لن يضطر إلى أن يحيا مرة أخرى. وهو يعجب كما يعجب لكريشيوس من ذوي الأرواح القلقة الذين إذا كانوا في المدن تاقوا إلى سكنى الريف، فإذا سكنوا الريف تاقوا إلى المدن، والذين لا يستطيعون أن يستمتعوا بما عندهم، لأن من الناس من عنده أكثر منهم؛ والذين لا يقنعون بزوجاتهم ويهيمون بخيالهم المفرط في العظمة وفي الحقارة معاً بجمال غيرهن من النساء اللائي أصبحن في نظر غيرهم من الرجال ولا جمال لهن. ويختتم نصائحه بقولهِ إن جنون المال هو مرض رومة القتال، ويسأل من يقضي أيامه في جمع الذهب:"لم تسخر من تنتلس لأن الماء يبتعد عن شفتيهِ الظامئتين على الدوام؟ ليس عليك إلا أن تبدل الأسماء فتنطبق القصة عليك أنت (٣٢) " ثم يهجو نفسه أيضاً؛ فهو يصور عبده يقول له في وجههِ إنه، وهو الداعي إلى أحسن الخلق، رجل أحمق حاد الطبع لا يعرف قط ما يدور في عقلهِ أو ما يهدف أليهِ، وأنه عبد شهواتهِ ككل إنسان آخر. وما من شك في أنه يوصي نفسه، كما يوصي غيره، بسلوك الطريقة الوسطى الذهبية إذ يقول:"إن للأشياء حداً ومقياساً (٣٤) " لا يقصر الرجل الذكي عنه ولا يتجاوزه. وهو في بداية كتاب الهجاء الثاني يشكو إلى صديق له أن المجموعة الأولى قد انتُقدت أشد النقد، فقيل فقيل إنها مفرطة في الخشونة وفي الضعف، ثم يستنصح الصديق فيقول له:"استرح" فيعترض عليهِ الشاعر بقولهِ: "ماذا؟ ألا أكتب الشعر قط"؟ فيجيبه "نعم" فيقول "ولكني لن أستطيع النوم (٣٥) ".