أقلام غير قلمه قبل ذلك الوقت. ولم يكن أغسطس الذي تاب وقتئذ وأناب لينخدع بهذه الضلالات الشعرية، فقد كان يسره أن يجد بينها تعظيماً لحكمهِ وثناء عليهِ، وعلى انتصاراتهِ، وأعوانه، وإصلاحاته الأخلاقية، وعلى السلم التي بسط لواءها في أيامهِ. وقد ألف هوراس أغنيته المشهورة في الشراب Nunc ets Bibendum (٤٤) حين جاءته الأنباء بأن كليوبطرة قضت نحبها، وأن أغسطس استولى على مصر، فقد كان لهذا النبأ وقع عظيم حتى في نفس هذا الشاعر السوفسطائي الذ سر من انتصار الإمبراطورية واتساع رقعتها إلى حد لم تبلغه قط من قبل. وهو يحذر قراءه من الاعتقاد بأن القوانين الجديدة يمكن أن تحل محل الأخلاق القديمة، ويأسف لانتشار الترف والزنى، والخلاعة، والعقائد المنحطة الفاسدة، ويقول مشيراً إلى الحرب الأخيرة:"وا أسفا على ما أصابنا من جروح وما ارتكبنا من جرائم، وعلى من مضوا من إخوتنا صرعى في الميدان! وهل ثمة شيء قد اشمأزت منه نفوسنا نحن أبناء هذا الجيل؟ وأي ظلم لم نرتكبه؟ "(٤٥) ويقول إن رومة لن تنجو إلا بالرجوع إلى الأساليب البسيطة وإلى الثبات الذي كان شعار الأيام الخالية. وهكذا نرى الشاعر المتشكك الذي كان من الصعب عليهِ أن يؤمن بأي شيء يحني رأسه الأشيب أمام النصب القديمة، ويقر أن الناس يهلكون إذا لم تكن لهم أساطير يؤمنون بها، ويسخر قلمه لخدمة الآلهة المرضى الضعاف.
وبعد فليس في أدب العالم ما يشبه هذه القصائد تمام الشبه-فهي رقيقة وقوية؛ وفيها تأنق ورجولة، وحذق وتعقيد، تخفي ما فيها من فن للفن البالغ درجة الكمال، وتخفي ما استلزمته من جهد بما يبدو عليها من يسر وسلاسة. فهي موسيقى من طراز غير طراز فرجيل، ذلك أن موسيقاها أقل من موسيقى فرجيل عذوبة في النغم وأكثر منها تعقلاً، وهي لم تكتب للشبان والعذارى بل كتبت للفنانين والفلاسفة. وليس في القصائد كلها شيء من الانفعال أو التحمس، أو "اللفظ المنمق"؛ بل الألفاظ كلها سهلة حتى في الجمل المقلوبة